وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيِّ ، بِدِمَشْقَ ، أَخْبَرَكُمْ أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِنْدِيّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ، قَالَ : أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، قِرَاءَةً عَلْيِه وَأَنَا أَسْمَعُ ، قَالَ : أَنَا أَبُو صَالِحٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُؤَذِّنُ ، ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ عِيسَى الْفُسْطَاطِيُّ ، بِمَكَّةَ مِنْ حِفْظِهِ ، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ ، عَلَى بَابِ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الأَخْبَارِيُّ ، ثنا أَبِي عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَدِمَ الْجَارُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ ، عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، لَقَدْ وَجَدْتُ صِفَتَكَ فِي الإِنْجِيلِ ، وَلَقَدْ بَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : فَآمَنَ الْجَارُودُ ، وَآمَنَ مِنْ قَوْمِهِ كُلُّ سَيِّدٍ ، فَسُرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ ، وَقَالَ : " يَا جَارُودُ ، هَلْ فِي جَمَاعَةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مَنْ يُعَرِّفُ لَنَا قِسًّا " ؟ . قَالُوا : كُلُّنَا نَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْقَوْمِ كُنْتُ أَقْفُو أَثَرَهُ ، كَانَ مِنْ أَسْبَاطِ الْعَرَبِ فَصِيحًا ، عَمَّرَ سَبْعَ مِائَةِ سَنَةٍ ، أَدْرَكَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ سَمْعَانَ ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَأَلَّهَ مِنَ الْعَرَبِ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يُقْسِمُ بِالرَّبِّ الَّذِي هُوَ لَهُ ، لَيَبْلُغَنَّ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، وَلَيُوَفَّيَنَّ كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : هَاجَ لِلْقَلْبِ مِنْ جَوَاهُ ادِّكَارُ وَلَيَالٍ خِلالَهُنَّ نَهَارُ فِي أَبْيَاتٍ آخِرُهَا : وَالَّذِي قَدْ ذَكَرْتَ دَلَّ عَلَى اللَّهِ نُفُوسًا لَهَا هُدًى وَاعْتِبَارُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلَى رَسْلِكَ يَا جَارُودُ ، فَلَسْتُ أَنْسَاهُ بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ مَا أَظُنُّ أَنِّي أَحْفَظُهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنِّي أَحْفَظُهُ ، كُنْتُ حَاضِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ بِسُوقِ عُكَاظٍ ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : يَأَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَعُوا ، وَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا ، إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ ، مَطَرٌ وَنَبَاتٌ ، وَأَرْزَاقٌ وَأَقْوَاتٌ ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ ، وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتٌ ، جَمْعٌ وَأَشْتَاتٌ ، وَآيَاتٌ بَعْدَ آيَاتٍ ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا ، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرًا ، لَيْلٌ دَاجٍ ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ ، وَأَرْضٌ ذَاتُ رِتَاجٍ ، وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ ، مَالِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلا يَرْجِعُونَ ، أَرَضَوْا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا ، أَمْ تُرِكُوا هُنَاكَ فَنَامُوا ، أَقْسَمَ قِسٌّ قَسَمًا لا حَانِثًا فِيهِ ، وَلا آثِمًا إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، وَنَبِيًّا قَدْ حَانَ حِينُهُ وَأَظَلَّكُمْ أَوَانُهُ ، فَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِهِ فَهَدَاهُ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : تَبًّا لأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ مِنَ الأُمَمِ الْخَالِيَةِ ، وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ ، يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ : أَيْنَ الآبَاءُ وَالأَجْدَادُ ؟ وَأَيْنَ الْمَرِيضُ وَالْعُوَّادُ ؟ وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ ؟ أَيْنَ مَنْ بَنَى وَشَيَّدَ ، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ ، وَغَرَّهُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ ؟ ، أَيْنَ مَنْ بَغَى وَطَغَى ، وَجَمَعَ فَأَوْعَى ، وَقَالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ؟ ، أَلَمْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالا ، وَأَطْوَلَ مِنْكُمْ آجَالا ، وَأَبْعَدَ مِنْكُمْ آمَالا ، طَحَنَهُمُ الثَّرَى بِكَلْكَلِهِ ، وَمَزَّقَهُمْ بِتَطَاوُلِهِ ، فَتِلْكَ عِظَامُهُمْ بَالِيَةٌ ، وَبُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ ، عَمَّرَتْهَا الذِّئَابُ الْعَاوِيَةُ ، كَلا بَلْ هُوَ اللَهُ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ ، لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلا مَوْلُودٍ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرُ لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرُ وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا تَمْضِي الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرُ لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرُ أَيْقَنْتُ أَنِّي لا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرُ قَالَ : ثُمَّ جَلَسَ وَقَامَ رَجُلٌ أَشْدَقُ أَجَشُّ الصَّوْتِ ، فَقَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ قِسٍّ عَجَبًا ، خَرَجْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي ، حَتَّى إِذَا عَسْعَسَ اللَّيْلُ ، وَكَادَ الصُّبْحُ أَنْ يَتَنَفَّسَ ، هَتَفَ بِي هَاتِفٌ ، يَقُولُ : يَأَيُّهَا الرَّاقِدُ فِي اللَّيْلِ الأَحَمّ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي الْحَرَمْ مِنْ هَاشِمٍ أَهْلِ الْوَفَاءِ وَالْكَرَمْ يَجْلُو دَجَنَاتِ اللَّيَالِي وَالْبُهُمْ قَالَ : فَأَدَرْتُ طَرَفِي فَمَا رَأَيْتُ شَخْصًا ، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ : يَأَيُّهَا الْهَاتِفُ فِي دَاجِي الظُّلَمْ أَهْلا وَسَهْلا بِكَ مِنْ طَيْفٍ أَلَمّ بَيِّنْ هَدَاكَ اللَّهُ فِي لَحْنِ الْكَلِمْ مَنْ ذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ تَغْتَنِمْ قَالَ : فَإِذَا أَنَا بِنَحْنَحَةٍ ، وَقَائِلٍ يَقُولُ : ظَهَرَ النُّورُ ، وَبَطَلَ الزُّورُ ، وَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَبُورِ ، صَاحِبَ النَّجِيبِ الأَحْمَرِ ، وَالتَّاجِ الْمُغَفَّرِ ، وَالْوَجْهِ الأَزْهَرِ ، وَالْحَاجِبِ الأَقْمَرِ ، وَالطَّرْفِ الأَحْوَرِ ، صَاحِبَ قَوْلِ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَذَلِكَ مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ إِلَى الأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ ، أَهْلِ الْمَدَرِ وَالْوَبَرِ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ عَبَثْ وَلَمْ يُخَلِّنَا سُدًا مِنْ بَعْدِ عِيسَى وَاكْتَرَثْ أَرْسَلَ فِينَا أَحْمَدا خَيْرَ نَبِيٍّ قَدْ بُعِثْ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ مَا حَجَّ لَهُ رَكْب وَحَثْ قَالَ : وَلاحَ الصَّبَاحُ ، وَإِذَا بِالْفَنِيقِ يُشَقْشِقُ إِلَى النُّوقِ ، فَمَلَكْتُ خِطَامَهُ ، وَعَلَوْتُ سَنَامَهُ ، حَتَّى إِذَا لَغَبَ فَنَزَلَ فِي رَوْضَةٍ خَضِرَةٍ ، فَإِذَا أَنَا بِقِسِّ بْنِ سَاعِدَةَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ، وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ مِنْ أَرَاكٍ ، يَنْكُثُ بِهِ فِي الأَرْضِ وَهُوَ يَقُولُ : يَا نَاعِيَ الْمَوْتِ وَالْمَلْحُودُ فِي جَدَثٍ عَلَيْهِمْ مِنْ بَقَايَا بَزِّهِمْ خِرَقُ دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يُصَاحُ بِهِمْ فَهُمْ إِذَا انْتَبَهُوا مِنْ نَوْمِهِمْ فُرُقُوا حَتَّى يَعُودُوا بِحَالٍ غَيْرِ حَالِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا مِنْ قَبْلِهِ خُلِقُوا مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِمُ مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْمَنْهَجُ الْخَلَقُ قَالَ : فَدَنَوْتُ مِنْهُ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ ، فَإِذَا أَنَا بِعَيْنٍ خَرَّارَةٍ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ ، وَمَسْجِدٍ بَيْنَ قَبْرَيْنِ ، وَأَسَدَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَلُوذَانِ بِهِ ، وَإِذَا بِأَحَدِهِمَا قَدْ سَبَقَ الآخَرَ إِلَى الْمَاءِ ، فَتَبِعَهُ الآخَرُ يَطْلُبُ الْمَاءَ ، فَضَرَبَهُ بِالْقَضِيبِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، وَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ حَتَّى يَشْرَبَ الَّذِي وَرَدَ قَبْلَكَ ، فَرَجَعَ ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا هَذَانِ الْقَبْرَانِ ؟ . قَالَ : هَذَانِ قَبْرَا أَخَوَيْنِ كَانَا لِي ، يَعْبُدَانِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعِي فِي هَذَا الْمَكَانِ ، لا يُشْرِكَانِ بِاللَّهِ شَيْئًا ، فَأَدْرَكَهُمَا الْمَوْتُ فَقَبَرْتُهُمَا ، وَهَا أَنَا بَيْنَ قَبْرَيْهِمَا ، حَتَّى أَلْحَقَ بِهِمَا ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِمَا وَجَعَلَ يَقُولُ : خَلِيلَيَّ هُبَّا طَالَمَا قَدْ رَقَدْتُمَا أَجِدَّكُمَا لا تَقْضِيَانِ كَرَاكُمَا أَلَمْ تَعْلَمَا أَنِّي بِسَمْعَانَ مُفْرَدًا وَمَا لِيَ فِيهِ مِنْ خَلِيلٍ سِوَاكُمَا مُقِيمٌ عَلَى قَبْرَيْكُمَا لَسْتُ بَارِحًا طُوَالَ اللَّيَالِي أَوْ يُجِيبُ صَدَاكُمَا وَأَبْكِيكُمَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا الَّذِي يَرُدُّ عَلَى ذِي لَوْعَةٍ أَنْ بَكَاكُمَا كَأَنَّكُمَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَائِبٍ بِرُوحِي فِي قَبْرَيْكُمَا قَدْ أَتَاكُمَا أَمِنْ طُولِ نَوْمٍ لا تُجِيبَانِ دَاعِيًا كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي الْعُقَارَ سَقَاكُمَا فَلَوْ جُعِلَتْ نَفْسٌ لِنَفْسٍ وِقَايَةً لَجُدْتُ بِنَفْسِي أَنْ تَكُونَ فِدَاكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَحِمَ اللَّهُ قِسًّا ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أُمَّةً وَحْدَهُ " .