وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ كَانَ أَطْوَلَ حُزْنًا مِنْهُ ، مَا كُنَّا نَرَاهُ إِلا أَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِمُصِيبَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : نَضْحَكُ وَلا نَدْرِي ، لَعَلَّ اللَّهُ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا ، فَقَالَ : لا أَقْبَلُ مِنْكُمْ شَيْئًا ، وَيْحَكَ يَابْنَ آدَمَ ، مَا لَكَ فِي مُحَارَبَةِ اللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ ، إِنَّهُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ حَارَبَهُ ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا ، أَكْثَرُ لِبَاسِهِمُ الصُّوفُ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ مَجَانِينَ ، وَلَوْ رَأَوْا أَخْبَارَكُمْ ، لَقَالُوا : مَا لِهَؤُلاءِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَوْ رَأَوْا شِرَارَكُمْ لَقَالُوا : مَا يُؤْمَنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ أَقْوَامًا كَانَتِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنَ التُّرَابِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ أَقْوَامًا عَسَى أَحَدُهُمْ أَلا يَجِدَ عِنْدَهُ إِلا قُوتًا ، فَيَقُولُ : لا أَجْعَلُ هَذَا كُلَّهُ فِي بَطْنِي ، لأَجْعَلَنَّ بَعْضَهُ لِلَّهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَجْوَعَ مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ : فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْعِرَاقَ أَرْسَلَ إِلَى الْحَسَنِ وَإِلَى الشَّعْبِيِّ ، فَأَمَرَ لَهُمَا بِبَيْتٍ ، فَكَانَا فِيهِ شَهْرًا أَوْ نَحْوَهُ ثُمَّ إِنَّ الْخَصِيَّ غَدَا عَلَيْهِمَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : إِنَّ الأَمِيرَ دَاخِلٌ عَلَيْكُمَا ، يَعْنِي : فَدَخَلَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عَصًا لَهُ ، فَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَلَسَ مُعَظِّمًا لَهُمَا ، فَقَالَ : إِنَّ الأَمِيرَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ يَكْتُبُ إِلَيَّ كُتُبًا أَعْرِفُ أَنَّ فِي إِنْفَاذِهَا الْهَلَكَةَ فَإِنْ أَطَعْتُهُ عَصَيْتُ اللَّهَ ، وَإِنْ عَصَيْتُهُ أَطَعْتُ اللَّهَ ، فَمَا تَرَيَا لِي فِي مُتَابَعَتِي أَنَّهُ يُرْجَى ؟ قَالَ الْحَسَنُ : أَجِبِ الأَمِيرَ ، فَتَكَلَّمَ الشَّعْبِيُّ ، فَانْحَطَّ فِي حَبْلِ ابْنِ هُبَيْرَةَ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ ؟ فَقَالَ : أَيُّهَا الأَمِيرُ قَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ مَا قَدْ سَمِعْتُ ، قَالَ : مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ فَظًّا غَلِيظًا لا يَعْصِي اللَّهَ مَا أَمَرَهُ ، فَيُخْرِجُكَ مِنْ سَعَةِ قَصْرِكَ إِلَى ضِيقِ قَبْرِكَ ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ إِنْ تَعْصِ اللَّهَ لا يَعْصِمْكَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَلَنْ يَعْصِمَكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ اللَّهِ ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ لا تَأْمَنْ أَنْ يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْكَ نَظْرَةَ مَقْتٍ عَلَى أَقْبَحِ مَا تَعْمَلُ فِي طَاعَةِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، فَيُغْلَقَ بِهَا بَابُ الْمَغْفِرَةِ دُونَكَ ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ لَقَدْ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ ، كَانُوا وَاللَّهِ عَلَى الدُّنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ أَشَدَّ إِدْبَارًا عَلَيْهَا مِنْ إِقْبَالِكُمْ عَلَيْهَا وَهِيَ مُدْبِرَةٌ ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ ، إِنِّي أُخَوِّفُكَ مَقَامًا خَوَّفَكَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ : ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ سورة إبراهيم آية 14 ، وَيَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ إِنْ تَكُ مَعَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ كَفَاكَ بَائِقَةَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَإِنْ تَكُ مَعَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَلَكَ إِلَيْهِ . قَالَ : فَبَكَى ابْنُ هُبَيْرَةَ وَقَامَ بِعَبْرَتِهِ قَالَ : فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا بِإِذْنِهِمَا وَجَوَائِزِهِمَا ، فَأَكْثَرَ فِيهَا لِلْحَسَنِ وَكَانَ فِي جَائِزَةِ الشَّعْبِيِّ بَعْضُ الإِقْتَارِ ، فَخَرَجَ الشَّعْبِيُّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْثِرَ اللَّهَ عَلَى خَلْقِهِ فَلْيَفْعَلْ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلِمَ الْحَسَنُ مِنْهُ شَيْئًا فَجَهِلْتُهُ ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ وَجْهَ ابْنِ هُبَيْرَةَ ، فَأَقْصَانِي اللَّهُ مِنْهُ ، فَكَانَ الْحَسَنُ مَعَ اللَّهِ عَلَى طَاعَتِهِ فَحَابَاهُ اللَّهُ وَأَدْنَاهُ . قَالَ : وَمَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ مخادش ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الْحَسَنِ ، فَقَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَنَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ : وَاللَّهِ لأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى يُدْرِكَكَ أَمْنٌ ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ . فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ : أَخْبِرْنَا بِصِفَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ : ظَهَرَتْ مِنْهُمْ عَلامَاتٌ بِالْخَيْرِ فِي السِّيمَاءِ ، وَالصَّمْتِ ، وَالصِّدْقِ ، وَآنَسْتُ عَلانِيَتَهُمْ فِي الاقْتِصَادِ وَمَمْشَاهُمْ بِالتَّوَاضُعِ ، وَمَنْطِقَهُمْ بِالْعَمَلِ ، وَتَطَيُّبَ مَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ بِالطَّيِّبِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَخُضُوعَهُمْ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّهِمْ ، وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْحَقِّ فِيمَا أَحَبُّوا أَوْ كَرِهُوا ، وَإِعْطَاءَهُمُ الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْعَدُوَّ وَالصَّدِيقَ ، وَتَحَفُّظَهُمْ فِي الْمَنْطِقِ مَخَافَةَ الْوِزْرِ ، وَمُسَارَعَتَهُمْ فِي الْخَيْرِ رَجَاءَ الأَجْرِ ، وَالاجْتِهَادَ لِلَّهِ ، رَمَّوْا جَهَازَهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ ، وَكَانُوا أَوْصِيَاءَ أَنْفُسِهِمْ ، ظَمَأَتْ هَوَاجِرُهُمْ ، وَنَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ ، وَاسْتَحَقُّوا سَخَطَ الْمَخْلُوقِينَ بِرِضَا الْخَالِقِ ، لَمْ يُفَرِّطُوا فِي غَضَبٍ وَلَمْ يَحِيفُوا فِي جَوْرٍ ، وَلا تَجَاوَزُوا حُكْمَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ ، شَغَلُوا الأَلْسُنَ بِالذِّكْرِ ، وَبَذَلُوا لِلَّهِ دِمَاءَهُمْ حِينَ اسْتَنْصَرَهُمْ ، وَبَذَلُوا لِلَّهِ أَمْوَالَهُمْ حِينَ اسْتَقْرَضَهُمْ ، فَلَمْ يَكُنْ خَوْفُهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، حَسُنَتْ أَخْلاقُهُمْ وَهَانَتْ مَئُونَتُهُمْ ، فَكَفَى الْيَسِيرُ مِنْ دُنْيَاهُمْ إِلَى آخِرَتِهِمْ .
الأسم | الشهرة | الرتبة |