حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثنا سَلَمَةُ ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : اسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقَالَ : إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى رَبِّي ، فَاخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ، فَخَرَجَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مُتَعَجِّلا لِلُقِيِّهِ شَوْقًا إِلَيْهِ ، وَأَقَامَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَمَعَهُ السَّامِرِيُّ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى أَثَرِ مُوسَى لِيُلْحِقَهُمْ بِهِ . فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ، طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : إِنَّكَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي سورة الأعراف آية 143 الآيَةَ ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ خَبَرِ مُوسَى فِيمَا طَلَبَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ وَأَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنْ قَدْ كَانَ لِذَلِكَ تَفْسِيرٌ وَقِصَّةٌ وَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَمُرَاجَعَةٌ لَمْ تَأْتِنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الأَوَّلِ بِأَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ : أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي تَفْسِيرِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِ مُوسَى حِينَ طَلَبَ ذَلِكَ إِلَى رَبِّهِ ، أَنَّهُ كَانَ مِنْ كَلامِهِ إِيَّاهُ حِينَ طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ ، وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ رَبُّهُ مِنْهُ مَا رَدَّ ، أَنَّ مُوسَى كَانَ تَطَهَّرَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ وَصَامَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ، فَلَمَّا أَتَى طُورَ سَيْنَاءَ ، وَدَنَا اللَّهُ لَهُ فِي الْغَمَامِ فَكَلَّمَهُ ، سَبَّحَهُ وَحَمَّدَهُ وَكَبَّرَهُ وَقَدَّسَهُ ، مَعَ تَضَرُّعٍ وَبُكَاءٍ حَزِينٍ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي مِدْحَتِهِ ، فَقَالَ : رَبِّ مَا أَعْظَمَكَ وَأَعْظَمَ شَأْنَكَ كُلَّهُ ! مِنْ عَظَمَتِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ قَبْلِكَ ، فَأَنْتَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، كَانَ عَرْشُكَ تَحْتَ عَظَمَتِكَ نَارًا تُوَقَّدُ لَكَ ، وَجَعَلْتَ سُرَادِقًا مِنْ دُونِهِ سُرَادِقٌ مِنْ نُورٍ ، فَمَا أَعْظَمَكَ رَبِّ ، وَأَعْظَمَ مُلْكَكَ ! جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَلائِكَتِكَ مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ ، فَمَا أَعْظَمَكَ رَبِّ وَأَعْظَمَ مُلْكَكَ وَسُلْطَانِكَ ، وَإِذَا أَرَدْتَ شَيْئًا تَقْضِيهِ فِي جُنُودِكَ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ ، أَوِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ ، وَجُنُودِكَ الَّذِينَ فِي الْبَحْرِ ، بَعَثْتَ الرِّيحَ مِنْ عِنْدَكِ لا يَرَاهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلا أَنْتَ إِنْ شِئْتَ ، فَدَخَلَتْ فِي جَوْفِ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَنْبِيَائِكَ ، فَبَلَّغُوا مَا أَرَدْتَ مِنْ عِبَادِكَ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ مَلائِكَتِكَ يَسْتَطِيعُ شَيْئًا مِنْ عَظَمَتِكَ ، وَلا مِنْ عَرْشِكَ ، وَلا يَسْمَعُ صَوْتَكَ ، فَقَدْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ، وَأَعْظَمْتَ عَلَيَّ الْفَضْلَ ، وَأَحْسَنْتَ إِلَيَّ كُلَّ الإِحْسَانِ ، عَظَّمْتَنِي فِي أُمَمِ الأَرْضِ ، وَعَظَّمْتَنِي عِنْدَ مَلائِكَتِكَ ، وَأَسْمَعْتَنِي صَوْتَكَ ، وَبَذَلْتَ لِي كَلامَكَ ، وَآتَيْتَنِي حِكْمَتَكَ ، فَإِنْ أَعُدَّ نُعْمَاكَ لا أُحْصِهَا ، وَإِنْ أُرِدْ شُكْرَكَ لا أَسْتَطِعْهُ . دَعَوْتُكَ رَبِّ عَلَى فِرْعَوْنَ بِالآيَاتِ الْعِظَامِ ، وَالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ ، فَضَرَبْتُ بِعَصَايَ الَّتِي فِي يَدِي الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ لِي وَلِمَنْ مَعِي ، وَدَعَوْتُكَ حِينَ أجَزْتُ الْبَحْرَ ، فَأَغْرَقْتَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي ، وَسَأَلْتُكَ الْمَاءَ لِي وَلأُمَّتِي ، فَضَرَبْتُ بِعَصَايَ الَّتِي فِي يَدِي الْحَجَرَ ، فَمِنْهُ أَرْوَيْتَنِي وَأُمَّتِي ، وَسَأَلْتُكَ لأُمَّتِي طَعَامًا لَمْ يَأْكُلْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُمْ ، فَأَمَرْتَنِي أَنْ أَدْعُوكَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَمِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ ، فَنَادَيْتُكَ مِنْ شَرْقِيِّ أُمَّتِي ، فَأَعْطَيْتَهُمُ الْمَنَّ مِنْ مَشْرِقِي لِنَفْسِي ، وَآتَيْتَهُمُ السَّلْوَى مِنْ غَرْبِيِّهِمْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ ، وَاشْتَكَيْتُ الْحَرَّ فَنَادَيْتُكَ ، فَظَلَّلْتَ عَلَيْهِمْ الْغَمَامِ ، فَمَا أُطِيقُ نُعْمَاكَ عَلَيَّ أَنْ أَعُدَّهَا وَلا أُحْصِيهَا ، وَإِنْ أَرَدْتُ شُكْرَهَا لا أَسْتَطِيعُهَا ، فَجِئْتُكَ الْيَوْمَ رَاغِبًا طَالِبًا سَائِلا مُتَضَرِّعًا ، لَتُعْطِيَنِي مَا مَنَعْتَ غَيْرِي ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ وَأَسْأَلُكَ يَا ذَا الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ أَنْ تُرِيَنِي أَنْظُرُ إِلَيْكَ ، فَإِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَرَى وَجْهَكَ الَّذِي لَمْ يَرَهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ ، قَالَ لَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ : أَلا تَرَى يَا ابْنَ عِمْرَانَ مَا تَقُولُ ؟ تَكَلَّمْتَ بِكَلامٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ ، لا يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا ، أَلَيْسَ فِي السَّمَوَاتِ مُعَمِّرِي ؟ فَإِنَّهُنَّ قَدْ ضَعُفْنَ أَنْ يَحْمِلْنَ عَظَمَتِي ، أو لَيْسَ فِي الأَرْضِ مُعَمِّرِي ؟ فَإِنَّهَا قَدْ ضَعُفَتْ أَنْ تَسَعَ لجُنْدِي ، فَلَسْتُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَأَتَجَلَّى لَعَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَيَّ ، قَالَ مُوسَى : رَبِّ أني أَرَاكَ فَأَمُوتَ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَلا أَرَاكَ فَأَحْيَا ، قَالَ لَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ تَكَلَّمْتَ بِكَلامٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ ، لا يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا ، قَالَ : رَبِّ تَمِّمْ عَلَيَّ نُعْمَاكَ ، وَتَمِّمْ عَلَيَّ فَضْلَكَ ، وَتَمِّمْ عَلَيَّ إِحْسَانَكَ بهَذَا الَّذِي سَأَلْتُكَ ، لَيْسَ لِي أَنْ أَرَاكَ فَأُقْبَضَ ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَرَاكَ فَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ، قَالَ لَهُ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَنْ يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا ، قَالَ مُوسَى : رَبِّ تَمِّمْ عَلَيَّ نُعْمَاكَ وَفَضْلَكَ ، وَتَمِّمْ عَلَيَّ إِحْسَانَكَ بِهَذَا الَّذِي سَأَلْتُكَ ، فَأَمُوتَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَيَاةِ ، فَقَالَ الرَّحْمَنُ الْمُتَرَحِّمُ عَلَى خَلْقِهِ : قَدْ طَلَبْتَ يَا مُوسَى ، وجئت لأعطيك سُؤْلَكَ , إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ ، فَاذْهَبْ فَاتَّخِذْ لَوْحَيْنِ ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الْحَجَرِ الأَكْبَرِ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ ، فَإِنَّ مَا وَرَاءَهُ وَمَا دُونَهُ مَضِيقٌ لا يَسَعُ إِلا مَجْلِسَكَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ ، ثُمَّ انْظُرْ فَإِنِّي أُهْبِطُ إِلَيْكَ وَجُنُودِي مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ ، نَحَتَ لَوْحَيْنِ ثُمَّ صَعِدَ بِهِمَا إِلَى الْجَبَلِ ، فَجَلَسَ عَلَى الْحَجَرِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ جُنُودَهُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَقَالَ : ضَعِي أَكْنَافَكِ حَوْلَ الْجَبَلِ ، فَسَمِعَتْ السَّمَاءِ مَا قَالَ الرَّبُّ ، فَفَعَلَتْ أَمْرَهُ ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ الصَّوَاعِقَ وَالظُّلْمَةَ وَالضَّبَابَ عَلَى مَا كَانَ يَلِي الْجَبَلَ الَّذِي يَلِي مُوسَى أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلائِكَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَنْ يَمُرُّوا بِمُوسَى ، فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ ، فَمَرُّوا بِهِ كثيران البقر تَنْبُعُ أَفْوَاهُهُمْ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ ، فَقَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ : رَبِّ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا غَنِيًّا ، مَا تَرَى عَيْنَايَ شَيْئًا قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُمَا مِنْ شُعَاعِ النُّورِ المتضعف عَلَى مَلائِكَةِ رَبِّي ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلائِكَةَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، أَنِ اهْبِطُوا عَلَى مُوسَى ، فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ ، فَهَبَطُوا أَمْثَالَ الأَسَدِ ، لَهُمْ لَجَبٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ ، فَفَزِعَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ابْنُ عِمْرَانَ مِمَّا رَأَى وَمِمَّا سَمِعَ ، فَاقْشَعَرَّتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِهِ وفِي جِلْدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : نَدِمْتُ عَلَى مَسْأَلَتِي إِيَّاكَ ، فَهَلْ يُنَجِّينِي مِنْ مَكَانِي الَّذِي أَنَا فِيهُ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ لَهُ حَبْرُ الْمَلائِكَةِ وَرَأْسُهُمْ : يَا مُوسَى , اصْبِرْ لِمَا سَأَلْتَ ، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَيْتَ ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلائِكَةَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ ، أَنِ اهْبِطُوا عَلَى مُوسَى ، فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ ، فَأَقْبَلُوا أَمْثَالَ النُّسُورِ , لَهُمْ قَصْفٌ وَرَجْفٌ وَلَجَبٌ شَدِيدٌ ، وَأَفْوَاهُهُمْ تَنْبُعُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ كَجَلَبِ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ ، ألوانهم كَلَهَبِ النَّارِ ، فَفَزِعَ مُوسَى ، وَأَسِيَتْ نَفْسُهُ ، وَسَاءَ ظَنَّهُ ، وَأَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ ، فَقَالَ لَهُ حَبْرُ الْمَلائِكَةِ وَرَأْسُهُمْ : مَكَانَكَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ ، حَتَّى تَرَى مَا لا تَصْبِرُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلائِكَةَ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ، أَنِ اهْبِطُوا فَاعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ ، فَأَقْبَلُوا فَهَبَطُوا عَلَيْهِ لا يُشْبِهُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ قَبْلَهُمْ ، أَلْوَانُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ ، وَسَائِرُ خَلْقِهِمْ كَالثَّلْجِ الأَبْيَضِ ، أَصْوَاتُهُمْ عَالِيَةٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ ، لا يُقَارِبُهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَاتِ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ قَبْلَهُمْ ، فَاصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ ، وَأُرْعِدَ قَلْبُهُ ، وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ ، فَقَالَ لَهُ حَبْرُ الْمَلائِكَةِ وَرَأْسُهُمْ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ ، اصْبِرْ لِمَا سَأَلْتَ ، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَيْتَ ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلائِكَةَ السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ ، أَنِ اهْبِطُوا فَاعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى ، فَهَبَطُوا عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَلْوَانٍ ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يُتْبِعَهُمْ طَرْفَهُ ، وَلَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِثْلَ أَصْوَاتِهِمْ ، وَامْتَلأَ جَوْفُهُ خَوْفًا ، وَاشْتَدَّ حُزْنُهُ ، وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ ، فَقَالَ لَهُ حَبْرُ الْمَلائِكَةِ وَرَأْسُهُمْ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ مَكَانَكَ حَتَّى تَرَى مَا لا تَصْبِرُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلائِكَةَ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، أَنِ اهْبِطُوا عَلَى عَبْدِي الَّذِي طَلَبَ أَنْ يَرَانِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ ، فَهَبَطُوا عَلَيْهِ فِي يَدِ كُلِّ مَلَكٍ مِثْلُ النَّخْلَةِ الطَّوِيلَةِ نَارٌ أَشَدُّ ضَوْءًا مِنَ الشَّمْسِ ، وَلِبَاسُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ ، إِذَا سَبَّحُوا وَقَدَّسُوا جَاوَبَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ مَلائِكَةِ السَّمَوَاتِ كُلِّهِمْ ، يَقُولُونَ بِشِدَّةِ أَصْوَاتِهِمْ : سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْعِزَّةِ أَبَدًا لا يَمُوتُ ، فِي رَأْسِ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُوسَى رَفَعَ صَوْتَهُ يُسَبِّحُ مَعَهُمْ حِينَ سَبَّحُوا ، وَهُوَ يَبْكِي ، وَيَقُولُ : رَبِّ اذْكُرْنِي ، وَلا تَنْسَ عَبْدَكَ ، لا أَدْرِي أَأَنْفَلِتُ مِمَّا أَنَا فِيهِ أَمْ لا ؟ إِنْ خَرَجْتُ احْتُرِقْتُ ، وَإِنْ مَكَثْتُ مُتُّ ، فَقَالَ لَهُ كَبِيرُ الْمَلائِكَةِ وَرَئِيسُهُمْ , قَدْ أَوْشَكْتَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ أَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُكَ ، وَيَنْخَلِعَ قَلْبُكَ ، وَيَشْتَدَّ بُكَاؤُكَ فَاصْبِرْ لِلَّذِي جَلَسْتَ لِتَنْظُرَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ عِمْرَانَ وَكَانَ جَبَلُ مُوسَى جَبَلا عَظِيمًا ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُحْمَلَ عَرْشُهُ ، ثُمَّ قَالَ : مُرُّوا بِي عَلَى عَبْدِي لِيَرَانِي ، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَى ، فَانْفَرَجَ الْجَبَلُ مِنْ عَظَمَةِ الرَّبِّ ، وَغَشَّى ضَوْءُ عَرْشِ الرَّحْمَنِ جَبَلَ مُوسَى ، وَرَفَعَتْ مَلائِكَةُ السَّمَوَاتِ أَصْوَاتَهَم جَمِيعًا ، فَارْتَجَّ الْجَبَلُ فَانْدَكَّ ، وَكُلُّ شَجَرَةٍ كَانَتْ فِيهِ ، وَخَرَّ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَعِقًا عَلَى وَجْهِهِ لَيْسَ مَعَهُ رُوحُهُ ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ بِرَحْمَتِهِ ، فَتَغَشَّاهُ الروح بِرَحْمَتِهِ , وَقَلَبَ الْحَجَرَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ كَالْمَعِدَةِ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ لِئَلا يَحْتَرِقَ مُوسَى ، فَأَقَامَهُ الرُّوحُ مِثْلَ الأُمِّ أَقَامَتْ جَنِينَهَا حِينَ يُصْرَعُ ، قَالَ : فَقَامَ مُوسَى يُسَبِّحُ اللَّهَ ، وَيَقُولُ : آمَنْتُ أَنَّكَ رَبِّي ، وَصَدَّقْتُ أَنَّهُ لا يَرَاكَ أَحَدٌ فَيَحْيَا ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَلائِكَتِكَ انْخَلَعَ قَلْبُهُ ، فَمَا أَعْظَمَكَ رَبِّ وَأَعْظَمَ مَلائِكَتَكَ ، أَنْتَ رَبِّ الأَرْبَابِ وَإِلَهُ الآلِهَةِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ ، تَأْمُرُ الْجُنُودَ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدُكَ فَيُطِيعُونَكَ ، وَتَأْمُرُ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا فَتُطِيعُكَ ، لا تَسْتَنْكِفُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلا يَعْدِلُكَ شَيْءٌ وَلا يَقُومُ لَكَ شَيْءٌ ، رَبِّ تُبْتُ إِلَيْكَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَك ، مَا أَعْظَمَكَ وَأَجَلَّكَ رَبَّ العالمين .