حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْجَوْهَرِيُّ ، قَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ : لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلافَةُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ أَهْدَى إِلَيْهِ طَاهِرٍ مِنْ خُرَاسَانَ جَوَارٍ ، وَكَانَتْ فِيهِنَّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا : مَحْبُوبَةُ ، وَكَانَتْ قَدْ نَشَأَتْ بِالطَّائِفِ ، وَكَانَ لَهَا مَوْلًى مُغْرًى بِالأَدَبِ ، فَكَانَتْ قَدْ أَخَذَتْ عَنْهُ وَرَوَتِ الأَشْعَارَ ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ مُعْجَبًا فَغَضِبَ عَلَيْهَا ، وَمَنَعَ جَوَارِي الْقَصْرِ مِنْ كَلامِهَا ، فَكَانَتْ فِي حُجْرَتِهَا لا يُكَلِّمُهَا أَحَدٌ أَيَّامًا ، فَرَأَتْهُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ قَدْ صَالَحَهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا عَلِيُّ . فَقُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَشَعَرْتَ أَنِّي رَأَيْتُ مَحْبُوبَةَ فِي مَنَامِي قَدْ صَالَحْتُهَا وَصَالَحَتْنِي . فَقُلْتُ : خَيْرًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِذًا يُقِرُّ اللَّهُ عَيْنَكَ وَيَسُرُّكَ ، فَوَاللَّهِ ، إِنَّا لَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ حَدِيثِهَا إِذْ جَاءَتْ وَصِيفَةٌ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَتْ : يَا سَيِّدِي ، سَمِعْتُ صَوْتَ عُودٍ مِنْ حُجْرَةِ مَحْبُوبَةَ . فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : قُمْ بِنَا يَا عَلِيُّ نَنْظُرْ مَا هَذَا الأَمْرُ ، فَنَهَضْنَا حَتَّى أَتَيْنَا حُجْرَتَهَا ، فَإِذَا هِيَ تَضْرِبُ بِالْعُودِ ، وَتَقُولُ : أَدُورُ فِي الْقَصْرِ لا أَرَى أَحَدًا أَشْكُو إِلَيْهِ وَلا يُكَلِّمُنِي حَتَّى كَأَنِّي أَتَيْتُ مَعْصِيَةً لَيْسَتْ لَهَا تَوْبَةٌ تُخَلِّصُنِي فَهَلْ شَفِيعٌ لَنَا إِلَى مَلِكٍ قَدْ زَارَنِي فِي الْكَرَى فَصَالَحَنِي حَتَّى إِذَا مَا الصَّبَاحُ لاحَ لَنَا عَادَ إِلَى هَجْرِهِ فَصَارَمَنِي قَالَ : فَصَاحَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَصِحْتُ مَعَهُ ، فَسَمِعَتْ ، فَتَلَقَّتْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَى رِجْلِهِ تُقَبِّلُهَا ، فَقَالَتْ : يَا سَيِّدِي ، رَأَيْتُكَ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ كَأَنَّكَ قَدْ صَالَحْتَنِي . قَالَ : وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ رَأَيْتُكِ ، فَرَدَّهَا إِلَى مَرْتَبَتِهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَتْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُتَوَكِّلِ مَا كَانَ تَفَرَّقْنَ وَصِرْنَ إِلَى الْعَوَّادِ ، وَنَسِينَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَصَارَتْ مَحْبُوبَةُ إِلَى وَصِيفٍ الْكَبِيرِ ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ لِبَاسُهَا إِلا الْبَيَاضَ ، وَكَانَتْ تَنْتَحِبُ وَتَشْهَقُ إِلَى أَنْ جَلَسَ وَصِيفٌ يَوْمًا لِلشُّرْبِ ، وَجَلَسَ الْجَوَارِي اللاتِي كُنَّ لِلْمُتَوَكِّلِ يُغَنِّينَهُ ، فَمَا تَغَنَّتْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ إِلا تَغَنَّتْ غَيْرُهَا ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهَا ، فَقَالَتْ : إِنْ رَأَى أَنْ يَعْفِيَنِي . فَأَبَى ، فَقَالَ لَهَا الْجَوَارِي لَوْ كَانَ فِي الْحُزْنِ فَرَجٌ لَحَزِنَّا مَعَكِ ، وَجِيءَ بِالْعُودِ ، فَوُضِعَ فِي حِجْرِهَا ، فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ : أَيُّ عَيْشٍ يَطِيبُ لِي لا أَرَى فِيهِ جَعْفَرَا مَلِكٌ قَدْ رَأَتْهُ عَيْنِي جَرِيحًا مُعَفَّرَا كُلُّ مَنْ كَانَ ذَا هُيَامٍ وَسَقَمٍ فَقَدْ بَرَا غَيْرَ مَحْبُوبَةَ الَّتِي لَوْ تَرَى الْمَوْتَ يُشْتَرَى لاشْتَرَتْهُ بِمَا حَوَتْهُ جَمِيعًا لِتُقْبَرَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى وَصِيفٍ ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا ، فَصَارَتْ إِلَى حَالَةٍ قَبِيحَةٍ ، وَلَبِسَتِ الصُّوفَ ، وَأَخَذَتْ تَرْثِيهِ ، وَتَبْكِيهِ حَتَّى مَاتَتْ .