حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي نُمَيْرُ بْنُ فِجَافٍ الْهِلالِيُّ ، قَالَ : كَانَ فِينَا فَتًى يُقَالُ لَهُ : بِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِالأَسِيرِ ، وَكَانَ سَيِّدَ فِتْيَانِ بَنِي هِلالٍ ، وَأَحْسَنَهُمْ وَجْهًا ، وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِجَارِيَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ، وَكَانَتْ تُدْعَى جِيدًا ، وَكَانَتْ بَارِعَةَ الْجَمَالِ ، فَلَمَّا عَلا أَمْرُهُ وَأَمْرُهَا ، وَظَهَرَ خَبَرُهُ وَخَبَرُهَا ، وَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَهْلِهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِيهِمُ الدِّمَاءُ ، قَالَ نُمَيْرٌ : فَلَمَّا طَالَ عَلَى الأَسِيرِ الْبَلاءُ جَاءَنِي يَوْمًا فَقَالَ لِي : يَا نُمَيْرُ ، هَلْ عِنْدَكَ خَبَرٌ ؟ قُلْتُ : عِنْدِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ . قَالَ : تُسَاعِدُنِي عَلَى زِيَارَةِ جِيدٍ ، فَقَدْ أَذَابَ الشَّوْقُ رُوحِي ، وَنَغَّصَ عَلَيَّ حَيَاتِي . قُلْتُ : نَعَمْ ، بِالْحُبِّ وَالْكَرَامَةِ ، فَانْهَضْ إِذَا شِئْتَ . فَرَكِبَ وَرَكِبْتُ مَعَهُ ، فَسِرْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا وَالْغَدَ ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعِشَاءُ أَنَخْنَا رِحَالَنَا فِي شِعْبٍ خَفِيٍّ وَقَعَدْنَا عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ : يَا نُمَيْرُ : اذْهَبْ فَتَأْنَسْ بِالنَّاسِ ، وَاذْكُرْ إِنْ لَقِيتَ أَحَدًا أَنَّكَ طَالِبُ ضَالَّةٍ ، وَلا تُعَرِّضْ بِذِكْرِي بَيْنَ شَفَةٍ وَلِسَانٍ إِلا أَنْ تَلْقَى فُلانَةَ جَارِيَتَهَا رَاعِيَةَ ضَأْنِهِمْ ، فَأَقْرِئْهَا مِنِّي السَّلامَ وَسَلْهَا عَنِ الْخَبَرِ ، وَأَعْلِمْهَا مَوْضِعِي . قَالَ : فَخَرَجْتُ لا أَعْدُو مَا أَمَرَنِي بِهِ حَتَّى لَقِيتُ الْجَارِيَةَ ، فَأَبْلَغْتُهَا الرِّسَالَةَ ، وَأَعْلَمْتُهَا مَكَانَهُ ، وَسَأَلْتُهَا عَنِ الْخَبَرِ ، قَالَتْ : هِيَ وَاللَّهِ مُشَدَّدٌ عَلَيْهَا ، مُتَحَفَّظٌ بِهَا عَلَى ذَلِكَ ، فَمَوْعِدُكُمْ أُولَئِكَ الشَّجَرَاتُ اللَّوَاتِي عِنْدَ أَقْعَابِ الْبُيُوتِ مَعَ صَلاةِ الْعِشَاءِ . قَالَ : فَانْصَرَفْتُ إِلَى صَاحِبِي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ ، ثُمَّ نَهَضْتُ أَنَا وَهُوَ نَقُودُ رَوَاحِلَنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْمَوْعِدَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَعَدَتْنَا ، فَلَمْ نَلْبَثْ إِلا قَلِيلا حَتَّى إِذَا جِيدٌ تَمْشِي ، فَدَنَتْ مِنَّا ، وَوَثَبَ الأَسِيرُ فَصَافَحَهَا وَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، وَوَثَبْتُ مُوَلِّيًا عَنْهُمَا ، فَقَالا : نُقْسِمُ عَلَيْكَ إِلا رَجَعْتَ ، فَوَاللَّهِ مَا نَحْنُ فِي مَكْرُوهٍ ، وَلا بَيْنَنَا قَبِيحٌ نَخْلُو بِهِ دُونَكَ ، فَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمَا ، فَقَالَ لَهَا الأَسِيرُ : مَا فِيكِ حِيلَةٌ يَا جِيدُ نَتَعَلَّلُ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَتْ : لا وَاللَّهِ مَا لِي إِلَى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ ، إِلا أَنْ يَرْجِعَ الَّذِي تَعْلَمُ مِنَ الْبَلاءِ وَالشَّرِّ . فَقَالَ لَهَا لا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ وَقَعَتِ السَّمَاءُ عَلَى الأَرْضِ . قَالَتْ : فَهَلْ فِي صَاحِبِكَ هَذَا مِنْ خَيْرٍ ؟ قُلْتُ : قُولِي مَا بَدَا لَكِ ؛ فَإِنِّي أَنْتَهِي إِلَى رَأْيِكِ ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ ذَهَابُ نَفْسِي . فَخَلَعَتْ ثِيَابَهَا فَلَبِسْتُهَا ، وَخَلَعْتُ ثِيَابِي فَلَبِسَتْهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : اذْهَبْ إِلَى بَيْتِي ، فَادْخُلْ فِي سِتْرِي ، فَإِنَّ زَوْجِي سَيَأْتِيكَ فَيَطْلُبُ مِنْكَ الْقَدَحَ يَحْلُبُ فِيهِ ، ثُمَّ يَأْتِيكَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَلْبِ بِالْقَدَحِ مَلآنَ لَبَنًا فَيَقُولُ : هَاكِ غَبُوتَكِ ، فَلا تَأْخُذْهُ مِنْهُ حَتَّى تُطِيلَ نُكْرَكَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ خُذْهُ أَوْ دَعْهُ حَتَّى يَضَعَهُ ، ثُمَّ لَسْتَ تَرَاهُ حَتَّى يُصْبِحَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ : فَذَهَبْتُ وَفَعَلْتُ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ، حَتَّى إِذَا جَاءَ بِالْقَدَحِ لآخُذَهُ ، فَلَمْ آخُذْهُ حَتَّى طَالَ نُكْرِي عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لآخُذَهُ وَهَوَى لِيَضَعَهُ فَاخْتَلَفَتْ يَدِي وَيَدُهُ ، فَانْكَفَأَ الْقَدَحُ وَانْدَفَقَ مَا فِيهِ مِنَ اللَّبَنِ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذَا الطَّمَّاحَ جَدَا . وَضَرَبَ بِيَدِهِ مُقَدَّمَ الْبَيْتِ فَاسْتَخْرَجَ سَوْطًا مَلْوِيًّا مِثْلَ الثُّعْبَانِ ، ثُمَّ دَخَلَ فَهَتَكَ السِّتْرَ وَقَبَضَ عَلَيَّ ، وَأَمْتَعَ السَّوْطَ مِنِّي ، فَضَرَبَنِي تَمَامَ عِشْرِينَ أَنْ زَادَتْ قَلِيلا أَوْ نَقَصْتُ قَلِيلا ، ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّهُ وَأُخْتُهُ فَانْتَزَعَانِي مِنْ يَدِهِ ، وَلا وَاللَّهِ فَعَلَ بِي ذَلِكَ حَتَّى زَايَلَنِي عَقْلِي وَهَمَمْتُ أَنْ أَجِيئَهُ بِالسِّكِّينِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا الْمَوْتُ ، فَلَمَّا خَرَجُوا سَدَدْتُ سِتْرِي وَقَعَدْتُ كَمَا كُنْتُ ، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلا قَلِيلا حَتَّى أُمُّ جِيدٍ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَكَلَّمَتْنِي وَهِيَ تَحْسَبُنِي ابْنَتَهَا ، وَانْبَعَثْتُ فِي الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ ، وَتَغَطَّيْتُ بِثَوْبِي وَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي ، فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّةِ ، اتَّقِي اللَّهَ فِي نَفْسِكِ ، وَلا تَعَرَّضِي لِمَكْرُوهِ زَوْجِكِ ، فَذَلِكَ أَوْلَى بِكِ ، فَأَمَّا الأَسِيرُ فَلَكِ آخِرَ الدَّهْرِ ، وَخَرَجَتْ مِنْ عِنْدِي وَقَالَتْ : سَأُرْسِلُ إِلَيْكِ بِأُخْتِكِ تُؤْنِسِكِ اللَّيْلَةَ . فَلَبِثْتُ غَيْرَ مَا كَثِيرٍ فَإِذَا الْجَارِيَةُ قَدْ جَاءَتْ وَجَعَلَتْ تَبْكِي وَتَدْعُو عَلَى مَنْ ضَرَبَنِي ، وَجَعَلْتُ لا أُكَلِّمُهَا ، ثُمَّ اضَّجَعَتْ إِلَى جَنْبِي ، فَلَمَّا اسْتَمَكَنْتُ مِنْهَا شَدَدْتُ يَدِي عَلَى فَمِهَا وَقُلْتُ : يَا هَذِهِ ، تِلْكَ أُخْتُكِ مِنَ الأَسِيرِ ، وَقَدْ قُطِعَ ظَهْرِي بِسَبَبِهَا اللَّيْلَةَ ، وَأَنْتِ أَوْلَى بِالسِّتْرِ عَلَيْهَا ، فَاخْتَارِي لِنَفْسِكِ وَلَهَا ، فَوَاللَّهِ إِنْ تَكَلَّمْتِ بِكَلِمَةٍ لأُصْبِحَنَّ أَنَا بِجُهْدِي حَتَّى تَكُونَ الْفَضِيحَةُ شَامِلَةً . ثُمَّ رَفَعْتُ عَنْ فِيهَا فَاهْتَزَّتْ كَمَا تَهْتَزُّ الْقَصَبَةُ مِنَ الْفَرَقِ ، فَلَمْ أَزَلْ بِهَا حَتَّى آنَسَتْ ، فَبَاتَتْ وَاللَّهِ مَعِي أَصْلَحَ رَفِيقٍ رَفَقْتُهُ قَطُّ ، فَلَمْ تَزَلْ تَتَحَدَّثُ وَتَضْحَكُ مِنِّي ، وَمَاءَلَنِي وَتَمَكَّنْتُ مِنْهَا تَمَكُّنَ مَنْ لَوْ رَامَ مِنْهَا رِيبَةً قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَ ، فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ ، ثُمَّ إِذَا جِيدٌ تَدْخُلُ عَلَيْنَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا رَأَتْنَا ارْتَاعَتْ لِذَلِكَ وَقَالَتْ : وَيْحَكَ مَا هَذِهِ ؟ قُلْتُ : أُخْتُكِ . قَالَتْ : وَمَا السَّبَبُ ؟ قُلْتُ : هِيَ تُخْبِرُكِ ؛ فَإِنَّهَا لَعَمْرُ اللَّهِ عَالِمَةٌ . وَأَخَذْتُ ثِيَابِي وَمَضَيْتُ إِلَى صَاحِبِي ، فَرَكِبْتُ أَنَا وَهُوَ وَحَدَّثْتُهُ مَا أَصَابَنِي ، وَكَشَفْتُ لَهُ عَنْ ظَهْرِي ، وَإِذَا فِيهِ مَا غَرَسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ضَرْبَةٍ إِلَى جَنْبِ أُخْرَى ، كُلُّ ضَرْبَةٍ يَخْرُجُ مِنْهَا الدَّمُ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ، قَالَ : لَقَدْ عَظُمَتْ صَنِيعَتُكَ ، وَوَجَبَ شُكْرُكَ ، وَخَاطَرْتَ بِنَفْسِكَ ، فَلا أَحْرَمَنِي اللَّهُ مُكَافَأَتَكَ " .
الأسم | الشهرة | الرتبة |