ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقَدَّمِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْمَنْصُورِ ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ ، قَالَ : " بَعَثَ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ فَصِرْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : " إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ كَتَبَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِحَمْلِكَ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثِ دَوَابَّ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِيدِ ، وَبَيْنَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهِكٍ ، فَقَالَ لَهُ : خُذْهُ فَاحْمِلْهُ ، وَجَهِّزْهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَوَكَّلَ بِيَ السِّنْدِيُّ خَلِيفَتَهُ عَبْدَ الْجَبَّارِ ، فَجَهَّزَنِي وَحَمَلَنِي ، فَلَمَّا دَخَلْتُ الرَّقَّةَ أُوصِلْتُ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ ، فَقَالَ لِي : لَا تَلْقَيَنَّ أَحَدًا ، وَلَا تُكَلِّمْهُ حَتَّى أُوصِلَكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنْزَلَنِي مَنْزِلًا أَقَمْتُ فِيهِ يَوْميَنِ أَوْ ثَلَاثَةً ، ثُمَّ اسْتَحْضَرَنِي ، فَقَالَ : جِئْنِي وَقْتَ الْمَغْرِبِ حَتَّى أُدْخِلَكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَجِئْتُهُ ، فَأَدْخَلَنِي عَلَى الرَّشِيدِ ، وَهُوَ جَالِسٌ مُتَفَرِّدٌ ، فَسَلَّمْتُ ، فَاسْتَدْنَانِي ، وَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ ، فَجَلَسْتُ ، وَقَالَ لِي : يَا عَبْدَ الْمَلِكِ ، وَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِسَبَبِ جَارِيَتَيْنِ أُهْدِيَتَا إِلَيَّ ، قَدْ أَخَذَتَا طَرَفًا مِنَ الْأَدَبِ ، أَحْبَبْتُ أَنْ تَبُورَ مَا عِنْدَهُمَا ، وَتُشِيرَ عَلَيَّ فِيهِمَا بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَكَ ، ثُمَّ قَالَ : لِيُمْضَ إِلَى عَاتِكَةَ ، فَيُقَالُ لَهَا : أَحْضِرِي الْجَارِيَتَيْنِ ، فَحَضَرَتْ جَارِيَتَانِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُمَا قَطُّ ، فَقُلْتُ لِأَجَلِّهِمَا : مَا اسْمُكِ ؟ قَالَتْ : فُلَانَةُ ، قُلْتُ : مَا عِنْدَكِ مِنَ الْعِلْمِ ؟ قَالَتْ : مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ ، ثُمَّ مَا يَنْظُرُ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الأَشْعَارِ ، وَالْآدَابِ ، وَالأَخْبَارِ ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَأَجَابَتْنِي كَأَنَّهَا تَقْرَأُ الْجَوَابَ مِنْ كِتَابٍ ، وَسَأَلْتُهَا عَنِ النَّحْوِ ، وَالْعَرُوضِ ، وَالأَخْبَارِ ، فَمَا قَصَّرَتْ ، فَقُلْتُ : بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ ، فَمَا قَصَّرْتِ فِي جَوَابِي فِي كُلِّ فَنٍّ أَخَذْتُ فِيهِ ، فَإِنْ كُنْتِ تَقْرِضِينَ الشِّعْرَ فَأَنْشِدِينَا ، فَانْدَفَعَتْ فِي هَذَا الشِّعْرِ : يَا غِيَاثَ الْعِبَادِ فِي كُلِّ مَحِلٍّ مَا يُرِيدُ الْعِبَادُ إِلَّا رِضَاكَ لَا وَمَنْ شَرَّفَ الإِمَامَ وَأَعْلَى مَا أَطَاعَ الإِلَهَ عَبْدٌ عَصَاكَ وَمَرَّتْ فِي الشِّعْرِ إِلَى آخِرِهِ ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي مَسْكِ رَجُلٍ مِثْلَهَا ، وَفَاتَحْتُ الْأُخْرَى ، فَوَجَدْتُهَا دُونَهَا ، فَقُلْتُ : مَا تَبْلُغُ هَذِهِ مَنْزِلَتَهَا ، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ وُوظِبَ عَلَيْهَا لَحِقَتْ ، فَقَالَ : يَا عَبَّاسِيُّ ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ : لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : لِتُرَدَّا إِلَى عَاتِكَةَ ، وَيُقَالُ لَهَا : تَصْنَعُ هَذِهِ يَعْنِي الَّتِي وَصَفْتُهَا بِالْكَمَالِ لِتُحْمَلَ إِلَيَّ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ قَالَ لِي : يَا عَبْدَ الْمَلِكِ ، أَنَا ضَجِرٌ ، وَقَدْ جَلَسْتُ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ حَدِيثًا أَتَفَرَّجُ بِهِ ، فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ ، فَقُلْتُ : لِأَيِّ الْحَدِيثِ يَقْصِدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : لِمَا شَاهَدْتَ وَسَمِعْتَ مِنْ أَعَاجِيبِ النَّاسِ ، وَطَرَائِفِ أَخْبَارِهِمْ ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، صَاحِبٌ لَنَا فِي بَدْوِ بَنِي فُلَانٍ ، كُنْتُ أَغْشَاهُ فَأَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً ، أَصَحُّ النَّاسِ ذِهْنًا ، وَأَجْوَدُهُمْ أَكْلا ، وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا ، فَغَبَرْتُ عَنْهُ زَمَانًا ، ثُمَّ قَصَدْتُهُ ، فَوَجَدْتُهُ نَاحِلَ الْبَدَنِ ، كَاسِفَ الْبَالِ ، مُتَغَيِّرَ الْحَالِ ! فَقُلْتُ لَهُ : مَا شَأْنُكَ ؟ أَصَابَتْكَ مُصِيبَةٌ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : أَفَمَرَضٌ عَرَاكَ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَمَا سَبَبُ هَذَا التَّغَيُّرِ الَّذِي أَرَاهُ بِكَ ؟ فَقَالَ : قَصَدْتُ بَعْضَ الْقَرَابَةِ فِي حَيِّ بَنِي فُلَانٍ ، فَأَلْفَيْتُ عِنْدَهُمْ جَارِيةً قَدْ لَاثَتْ رَأْسَهَا ، وَطَلَتْ بَالْوَرْسِ مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَي قَدَمِهَا ، وَعَلَيْهَا قَمِيصٌ وَقِنَاعٌ مَصْبُوغَانِ ، وَفِي عُنُقِهَا طَبْلٌ تُوَقِّعُ عَلَيْهِ ، وَتُنْشِدُ هَذَا الشِّعْرَ : مَحَاسِنُهَا سِهَامٌ لِلْمَنَايَا مُرَيَّشَةٌ بِأَنْوَاعِ الْخُطُوبِ بَرَى رَيْبُ الْمَنُونِ لَهُنَّ سَهْمًا تُصِيبُ بِنَصْلِهِ مُهَجَ الْقُلُوبِ فَأَجَبْتُهَا : قِفِي شَفَتَيَّ فِي مَوْضِعِ الطَّبْلِ تَرْتَعِي كَمَا قَدْ أَنَخْتِ الطَّبْلَ فِي جِيدِكِ الْحَسَنْ هَبِينِيَ عُودًا أَجْوَفًا تَحْتَ شَنَّةٍ تَمَتَّعَ فِيمَا بَيْنَ نَحْرِكِ وَالذَّقَنْ فَلَمَّا سَمِعَتِ الشِّعْرَ مِنِّي نَزَعَتِ الطَّبْلَ ، فَرَمَتْ بِهِ فِي وَجْهِي ، وَبَادَرَتْ إِلَي الْخِبَاءِ فَدَخَلَتْهُ ، فَلَمْ أَزَلْ وَاقِفًا إِلَي أَنْ حَمِيَتِ الشَّمْسُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِي ، لَا تَخْرُجُ إِلَيَّ ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَيَّ جَوَابًا ، فَقُلْتُ : أَنَا مَعَهَا وَاللَّهِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : فَوَاللَّهِ يَا سَلْمَى لَطَالَ إِقَامَتِي عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ يَا سُلَيْمَى أُرَاقِبُهْ ثُمَّ انْصَرَفْتُ سَخِينَ الْعَيْنِ ، قَرِحَ الْقَلْبِ ، فَهَذَا الَّذِي تَرَى بِي مِنَ التَّغَيُّرِ مِنْ عِشْقِي لَهَا ، فَضَحِكَ الرَّشِيدُ حَتَّى اسْتَلْقَى ، وَقَالَ : وَيْحَكَ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ ، ابْنُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً يَعْشَقُ ؟ قُلْتُ : قَدْ كَانَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : يَا عَبَّاسِيُّ ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ : لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : أَعْطِ عَبْدَ الْمَلِكِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَرُدَّهُ إِلَي مَدِينَةِ السَّلَامِ ، فَانْصَرَفْتُ ، فَإِذَا خَادِمٌ يَحْمِلُ شَيْئًا ، وَمَعَهُ جَارِيَةٌ تَحْمِلُ شَيْئًا ، فَقَالَ : أَنَا رَسُولُ بِنْتِكَ ، يَعْنِي الْجَارِيَةَ الَّتِي وَصَفْتُهَا ، وَهَذِهِ جَارِيَتُهَا ، وَهِيَ تَقْرأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ، وَتَقُولُ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ لِي بِمَالٍ وَثِيَابٍ ، فَهَذَا نَصِيبُكَ مِنْهَا ، فَإِذَا الْمَالُ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَهِيَ تَقُولُ : لَنْ نُخَلِّيَكَ مِنَ الْمُوَاصَلَةِ بِالْبِرِّ ، فَلَمْ تَزَلْ تَعَهَّدُنِي بِالْبِرِّ الْوَاسِعِ الْكَثِيرِ حَتَّى كَانَتْ فِتْنَةُ مُحَمَّدٍ ، فَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهَا عَنِّي ، وَأَمَرَ لِيَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ مِنْ مَالِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ " .