حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَدِينِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا فِطْرُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ وَاقِدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، قَالَ : سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ ، يَقُولُ : " يَقُولُونَ : مَالِكٌ زَاهِدٌ ، " أَيُّ زُهْدٍ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَلَهُ جُبَّةٌ وَكِسَاءٌ ، إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا ، فَتَرَكَهَا " ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ : وَهُوَ تَرْكُ الْمَحْظُورِ كُلِّهِ ، وَتَرْكُ الْحَلالِ ، وَالْمُبَاحِ قَبْلَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إِلَيْهِ ، قَالُوا : فَإِنْ أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَجُوعَ ، أَوْ شَرِبَ قَبْلَ أَنْ يَعْطَشَ ، أَوْ رَقَدَ قَبْلَ أَنْ يَنْعَسَ ، أَوْ جَامَعَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، فَقَدْ مَالَ إِلَى التَّلَذُّذِ ، وَالتَّلَذُّذُ مِنَ الدُّنْيَا ، ثُمَّ الزُّهْدُ فِي الرَّاحَةِ ؛ لِتَكُونَ كُلُّ أَوْقَاتِهِ مُسْتَغْرِقَةً الشُّغْلَ بِالْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الزُّهْدِ ، وَكَذَلِكَ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ ، وَالْحَدِيثِ ، وَالْكَلامِ ، وَكُلُّ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ ، فَهُوَ مَيْلٌ إِلَى الدُّنْيَا ، وَهُوَ مِنَ الْفُضُولِ ، وَالدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مِنَ الْفُضُولِ ، إِلا مَا اسْتُعِينَ بِهِ مِنْهَا عَلَى الآخِرَةِ ، قَالُوا : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ لَوْ تَنَفَّلَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَغَيْرِهَا ، إِذْ لا بُدَّ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ ، كَرَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهُ ، فَيُؤَخِّرُهُ إِلَى وَقْتٍ يَأْتِي ، أَوْ صَلاةٍ قَدْ وَجَبَ فَرْضُهَا بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، أَوْ حَجٍّ قَدْ وَجَبَ لِلاسْتِطَاعَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا تَعَالَجَ مِنْ عِلَّةٍ ، فَقَالَ قَائِلُونَ : إِنَّمَا ذَلِكَ رَغْبَةٌ فِي الصِّحَّةِ وَالْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : ذَلِكَ قَدْرُ نِيَّتِهِ ، إِنْ نَوَى بِهِ حُبَّ الْبَقَاءِ وَالصِّحَّةِ وزَوَالِ الأَمْرِ ، فَهُوَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَقَوَّى عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ، فَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ ، وَقَالُوا : لَوْ أَنَّ رَجُلا طَلَبَ الدُّنْيَا لِيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَلْبَسَ وَيَتَمَتَّعَ فِيهَا ، وَآخَرَ تَرَكَهَا لِرَاحَةِ قَلْبِهِ وَجِسْمِهِ ، وتَلَذَّذَ بِالْفَرَاغِ وَالرَّاحَةِ ، كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ زَاهِدَيْنِ حَتَّى يَنْوِيَ التَّارِكُ لَهَا بِنِيَّةٍ غَيْرِ هَذِهِ ، إِمَّا لِيَفْرُغَ مِنْهَا لأَنَّهَا تَشْغَلُهُ عَنِ الآخِرَةِ ، وَإِمَّا لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَمَّهَا ، وَزَهَّدَ فِيهَا ، فَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ أَيْضًا ، وَقَالُوا : لَوْ تَرَكَهَا وَجَانَبَهَا ، وَلَهَا فِي قَلْبِهِ قَدْرٌ وَمَوْضِعٌ ، كَانَ بِذَلِكَ فَاضِلا ، مُعَامِلاً ، مُجَاهِدًا ، وَلَمْ يَكُنْ بِالتَّرْكِ زَاهِدًا ، وَإِنَّمَا الزُّهْدُ عِنْدَهُمْ خُرُوجُ قَدْرِهَا ، إِذْ هِيَ لا شَيْءَ ، قَالُوا : فَذَلِكَ الزُّهْدُ ، درجات الزهد وَمِنَ الزُّهْدِ أَيْضًا الزُّهْدُ فِي الرِّئَاسَةِ ، وَالْمُحَاسَنَةِ ، وَالْمُحَادَثَةِ ، وَالْمُعَاشَرَةِ ، وَأَوَّلُ الزُّهْدِ : الزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ ، ثُمَّ الزُّهْدُ فِي الْمُبَاحِ ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الزُّهْدِ ، أَنْ يُزْهَدَ فِي الْفُضُولِ ، وَالْفُضُولُ كُلُّ مَا لَكَ عَنْهُ غِنًى ، فَكَأَنَّكَ تَزْهَدُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، إِلا فِيمَا أَمَرَكَ اللَّهُ ، أَوْ فِيمَا نَدَبَكَ إِلَيْهِ مِمَّا يُقَرِّبُكَ إِلَيْهِ ، أَوْ مَا لا بُدَّ مِنْهُ ، وَكُلُّ مَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ ، فَهُوَ مِنَ الْفُضُولِ ، وَهُوَ تَرْكُ مَا لا يَعْنِي ، وَقَالَ قَوْمٌ : النِّارُ كَهَذِهِ الأَشْيَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يُحِبُّهَا ، وَيُرِيدُهَا ، إِذَا تَرَكَهَا مُجَاهِدًا لِنَفْسِهِ ، صَابِرًا عَنْهَا ، إِنَّهُ زَاهِدٌ ، وَقَالَ آخَرُونَ : لا يُسَمَّى زَاهِدًا حَتَّى يَكُونَ مَعَ تَرْكِهِ لَهَا غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا ، وَذَلِكَ خُرُوجُ قَدْرِهَا مِنَ الْقَلْبِ ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا خَرَجَ قَدْرُهَا مِنَ الْقَلْبِ ، وَلَمْ تُحِبَّهَا النَّفْسُ ، فَتَتَنَاوَلُ مِنْهَا شَيْئًا عَلَى جِهَةِ الْمُبَاحِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : قَدْ تَمَّ زُهْدُهُ بِخُرُوجِ قَدْرِهَا مِنْ قَلْبِهِ ، وَإِنْ تَنَاوَلَ مِنْهَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِذَا خَرَجَ قَدْرُهَا ، فَتَنَاوَلَ مِنْهَا شَيْئًا ، فَهُوَ نَاقِصٌ إِلا أَنْ يَكُونَ الْمُتَنَاوَلُ مِنْهَا يُعِينُ عَلَى طَاعَةٍ ، أَوْ مَا لا بُدَّ مِنْهُ ، مِمَّا لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْمَنْ نَفْسَهُ الْخُرُوجَ إِلَى غَيْرِهِ ، مِثْلَ مَا يَكُفُّ بِهِ طَبْعَهُ وَبَشَرِيَّتَهُ مِنَ الْغِذَاءِ ، وَالنَّوْمِ ، وَاللِّبَاسِ ، وَالنِّسَاءِ ، إِذْ كَانَتِ الْبَشَرِيَّةُ مَطْبُوعَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ أَنْ يَتَعَاطَى الإِنْسَانُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، بَعْدَ تَسْكِينِ الْبَشَرِيَّةِ ، مُتَلَذِّذًا ، مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا ، وَقَالَ آخَرُونَ : لا يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الزُّهْدِ مَنْ يَتَنَاوَلُ مُبَاحًا ، كَمَا لا يَكُونُ زَاهِدًا مَنْ تَنَاوَلَ مَحْظُورًا ، وَقَالَ آخَرُونَ : كُلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ ، لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا مَنْهِيًّا عَنْهُ ، أَوْ مُحَلَّلا مَأْمُورًا بِهِ ، أَوْ مُبَاحًا مَسْكُوتًا عَنْهُ ، فَأَمَّا الْحَرَامُ فَلا مَعْنَى لِلْكَلامِ فِيهِ ، وَأَمَّا الْحَلالُ وَالْمُبَاحُ فَلا يَدْخُلُ فِيهِ إِلا بِنِيَّةٍ ، وَلا تَخْلُو النِّيَّةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحْصُورَةً يُرَادُ بِهَا الطَّاعَةُ ، أَوْ مَذْمُومَةً تَؤُولُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ ، أَوْ مَسْكُوتًا عَنْهَا ، فَمَنْ دَخَلَ الأَشْيَاءَ بِلا نِيَّةٍ ، لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ حَمْدٍ وَلا ذَمٍّ ، وَمَا دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةٍ ، رُدَّ إِلَى نِيَّتِهِ ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : إِذَا دَخَلَ بِلا نِيَّةٍ فَهُوَ نَاقِصٌ ، لأَنَّهُ عَبْدٌ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ ، فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهِ مِمَّا لا يُوَافِقُ أَمْرًا وَلا نَهْيًا فَهُوَ فُضُولٌ لا يَعْنِي ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ ، فَتَنَاوُلُهُ أَنْقَصَ .
الأسم | الشهرة | الرتبة |