حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَشِيُّ الْمُقْرِئُ ، قَالَ : ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجُنَيْدِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبُرْجُلانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ، قَالَ : صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى , فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ , فَقُلْتُ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ رَاهِبًا هَهُنَا أَقْتَبِسُ مِنْ عِلْمِهِ . فَقُلْتُ : أَجِيءُ مَعَكَ ؟ قَالَ : إِنْ شِئْتَ . قَالَ : فَأَتَيْنَا عَلَى كَهْفِ جَبَلٍ نَاحِيَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ قَالَ : فَوَقَفَ النَّصْرَانِيُّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ ، أَتَيْتُكَ لأَقْتَبِسَ مِنْ عِلْمِكَ خَيْرًا فَعَلِّمْنِي نَفَعَكَ اللَّهُ بِعِلْمِكَ ، قَالَ : فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ مِنْ دَاخِلِ الْكَهْفِ : أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ سُبُلِ الْمَنَافِعِ ، تَيَقَّظْ حِينَ يَغْفُلُ الْجَاهِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، قَالَ : فَجَلَسَ النَّصْرَانِيُّ يَبْكِي , وَقَالَ : مَا أَرَاهُ إِلا مَرِيضًا , وَإِنِّي لأَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَنَا أَجَلُهُ , وَمَا أَرَى أَنَّا نُمْطَرُ إِلا بِهِ , فَقُلْتُ : فَلَوْ دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ : إِنْ شِئْتَ . قَالَ : فَانْحَدَرْنَا فِي الْكَهْفِ حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ وَعْرٍ , فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ , وَإِذَا هُوَ مَكْبُوبٌ عَلَى وَجْهِهِ , وَإِذَا هُوَ يَقُولُ : لَئِنْ كُنْتَ أَطَلْتَ جَهْدِي فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَتُطِيلُ شَقَائِي فِي الآخِرَةِ ، لَقَدْ أَهْمَلْتَنِي وَأَسْقَطَّتَنِي مِنْ عَيْنِكَ أَيُّهَا الْكَرِيمُ . قَالَ : فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا دُمُوعُهُ قَدْ بَلَّتِ الأَرْضَ مِنْهَا , فَقَالَ : مَا أَدْخَلَكُمْ عَلَيَّ ؟ أَلَمْ تَكُنِ الأَرْضُ لَكُمْ وَاسِعَةً , وَأَهْلُهَا لَكُمْ أُنَاسًا ؟ فَلَمَّا رَأَيْتُ مِنَ عَقْلِهِ مَا رَأَيْتُ , قُلْتُ : وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْغَبُ بِعَقْلِكَ عَنِ النَّارِ , فَبَكَى , وَقَالَ : مَا الَّذِي آيَسَنِي عِنْدَكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَنْ يَنَالَهَا غَيْرُ أَهْلِ الإِسْلامِ دِينًا ، قَالَ : فَبَكَى ثُمَّ قَالَ : مَا أَعْرِفُ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا ، قَالَ : فَاشْمَأَزَّ النَّصْرَانِيُّ وَقَالَ : يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ ، تَرْغَبُ عَنِ النَّصْرَانِيَّةِ وَدِينِ الْمَسِيحِ ؟ قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ , أَنَا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ , وَهَلْ كَانَ لِلْمَسِيحِ دِينًا سِوَى الإِسْلامِ ؟ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ خَلْقَهُ ارْتَضَى لَهُمُ الإِسْلامَ دِينًا , فَمَنْ رَغِبَ عَنِ الإِسْلامِ فَلا حَظَّ لَهُ فِي الآخِرَةِ ، وَلا نَصِيبَ قَالَ : فَثَارَ النَّصْرَانِيُّ مُوَلِّيًا قَالَ : فَقُلْتُ انْتَظِرْ حَتَّى أَخْرُجَ مَعَكَ ، قَالَ : فَقَالَ الرَّاهِبُ : دَعْهُ فَمَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ لَمْ يَسْعَدْ أَبَدًا ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ اعْتَزَلْتَ النَّاسَ ، وَاغْتَرَبْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، قَالَ : فَقَالَ وَأَنْتَ أَيْ أُخَيَّ فَحَيْثُ مَا ظَنَنْتَ أَنَّهُ أَقْرَبُ لَكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَابْتَغِ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا , فَلَنْ تَجِدَ مَتْبُوعًا مِنْ خَيْرِهِ عِوَضًا , قُلْتُ : فَالْمَطْعَمُ ؟ قَالَ : قَلَّ ذَلِكَ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، قَالَ : قُلْتُ : فَمَا الْقِلَّةُ ؟ قَالَ : إِذَا أَرَدْنَا ذَلِكَ تُنْبِتُ الأَرْضُ ، وَقُلُوبُ الشَّجَرِ , قُلْتُ : أُخْرِجُكَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَآتِ بِكَ أَرْضَ الرِّيفِ وَالْخِصْبِ ؟ فَبَكَى , وَقَالَ : إِنَّمَا الْخِصْبُ ، وَالرِّيفُ حَيْثُ يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ , وَإِنَّمَا أَمُوتُ الآنَ وَلا حَاجَةَ لِي بِالنَّاسِ . قُلْتُ : أَوْصِنِي بِشَيْءٍ أَحْفَظُهُ عَنْكَ ، قَالَ : تَفْعَلُ ؟ قُلْتُ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ : لا تَدَّخِرْ عَنْ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا , وَلا تُؤْثِرَنَّ بِحَظِّكَ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا , وَارْعَ حُدُودَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ مُغَالَبَةِ الْهَوَى ، وَتَنَسَّمْ إِلَى مَحَابِّهِ , وَإِنْ صَعُبَ عَلَيْكَ الْمُرْتَقَى , وَأُخْرَى أَقُولُهَا لَكَ ، جِمَاعًا لا تَرُدَّ بِفِعَالِكَ غَيْرَهُ , وَالسَّلامُ عَلَيْكَ ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَبْكِي ، فَانْصَرَفْتُ .