حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ لَيْثٍ ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ ، وَكَانَ مِنَ الْمُصَلِّيِينَ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْعَبْدَرِيُّ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ الصَّنْعَانِيُّ الْمُجَدَّرُ يَسْكُنُ صَنْعَاءَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ سَلْمَانَ الْخَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا سَأَلَ الْحَوَارِيُّونَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا الْمَائِدَةَ كَرِهَ ذَلِكَ جِدًّا ، وَقَالَ : " يَا قَوْمِ اتَّقُوا اللَّهَ ، وَاقْنَعُوا بِمَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ ، وَلا تَسْأَلُوا الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ فَإِنَّهَا إِنْ نَزَلَتْ عَلَيْكُمْ كَانَتْ آيَةً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنَّمَا هَلَكَتْ ثَمُودُ حِينَ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ آيَةً ، فَابْتُلُوا بِهَا حَتَّى كَانَ بَوَارُهُمْ ، يَعْنِي هَلاكَهُمْ ، فَأَبَوْا إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ ، فَلِذَلِكَ قَالُوا : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ سورة المائدة آية 113 . فَلَمَّا رَأَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُمْ قَدْ أَبَوْا إِلا أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِهَا ، قَالَ : فَأَلْقَى عَنْهُ الصُّوفَ ، وَلَبِسَ الشَّعْرَ الأَسْوَدَ ، جُبَّةً مِنْ شَعْرٍ وَعَبَاءَةً مِنْ شَعْرٍ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ وَدَخَلَ الصَّلاةَ وَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَامَ قَائِمًا ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَصَفَّ قَدَمَيْهِ حَتَّى اسْتَوَيَا ، فَأَلْصَقَ الْكَعْبَِ ، وَحَاذَى الأَصَابِعَ بِالأَصَابِعِ ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فَوْقَ صَدْرِهِ ، وَأَغْضَى بَصَرَهُ ، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ خُشُوعًا ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ ، فَمَا زَالَتْ دُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ ، وَتَقْطُرُ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ حَتَّى ابْتَلَّتِ الأَرْضُ حِيَالَ وَجْهِهِ مِنْ خُشُوعِهِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا سورة المائدة آية 114 ، أَيْ تَكُونُ لَنَا عِظَةً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ، أَيْ وَعَلامَةً مِنْكَ تَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ، وَارْزُقْنَا عَلَيْهَا طَعَامًا نَأْكُلُهُ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ سُفْرَةً حَمْرَاءَ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ ، غَمَامَةٍ فَوْقَهَا ، وَغَمَامَةٍ تَحْتَهَا ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْهَوَاءِ تَنْقَضُّ مِنْ ظُلَلِ السَّمَاءِ ، تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَبْكِي خَوْفًا لِلشُّرُوطِ الَّتِي اتَّخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، أَنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا مِنْهُمْ بَعْدَ نُزُولِهَا ، عَذَابًا لا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ فِي مَكَانِهِ ، وَيَقُولُ : إِلَهِيَ ، اجْعَلْهَا رَحْمَةً ، إِلَهِي لا تَجْعَلْهَا عَذَابًا ، إِلَهِي كَمْ مِنْ عَجِيبَةٍ سَأَلْتُكَ فَأَعْطَيْتَنِي ، إِلَهِي اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ ، إِلَهِي أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَكُونَ أَنْزَلْتَهَا غَضَبًا وَزَجْرًا ، إِلَهِي اجْعَلْهَا سَلامَةً وَعَافِيَةً ، وَلا تَجْعَلْهَا فِتْنَةً وَمَثُلَةً ، فَمَا زَالَ يَدْعُو بِذَلِكَ حَتَّى اسْتَقَرَّتِ السُّفْرَةُ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَالْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ ، يَجِدُونَ رَائِحَةً طَيِّبَةً لَمْ يَجِدُوا فِيمَا مَضَى رَائِحَةً مِثْلَهَا قَطُّ ، وَخَرَّ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا سَاجِدًا شُكْرًا لَهُ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَأَرَاهُمْ فِيهِ آيَةً عَظِيمَةً ، ذَاتَ عَجَبٍ وَعِبْرَةٍ ، وَأَقْبَلَتِ الْيَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُونَ ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا عَجِيبًا ، أَوْرَثَهُمْ كَمَدًا وَغَمًّا ، ثُمَّ انْصَرَفُوا بِغَيْظٍ شَدِيدٍ ، وَأَقْبَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَالْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى جَلَسُوا حَوْلَ السُّفْرَةِ ، فَإِذَا عَلَيْهَا مِنْدِيلٌ مُغَطًّى ، قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : مَنْ أَجْرَأُنَا عَلَى كَشْفِ الْمِنْدِيلِ عَنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ ، وَأَوْثَقُنَا بِنَفْسِهِ وَأَحْسَنُنَا بَلاءً عِنْدَ رَبِّهِ ، فَلْيَكْشِفْ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ، حَتَّى نَرَاهَا وَنَحْمَدَ رَبَّنَا ، وَنَذْكُرَ اسْمَهُ وَنَأْكُلَ مِنْ رِزْقِهِ الَّذِي رَزَقَنَا ؟ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ : يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ أَنْتَ أَوْلانَا بِذَلِكَ ، وَأَحَقُّنَا بِالْكَشْفِ عَنْهُ ، فَقَامَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ، فَاسْتَأْنَفَ وُضُوءًا جَدِيدًا ، ثُمَّ دَخَلَ مُصَلاهُ فَصَلَّى لِذَلِكَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ بَكَى طَوِيلا وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْكَشْفِ عَنْهَا ، وَيَجْعَلَ لَهُ وَلِقَوْمِهِ فِيهَا بَرَكَةً وَرِزْقًا ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَجَلَسَ إِلَى السُّفْرَةِ وَتَنَاوَلَ الْمِنْدِيلَ ، وَقَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ " وَكَشَفَ عَنِ السُّفْرَةِ فَإِذَا هُوَ عَلَيْهَا سَمَكَةٌ ضَخْمَةٌ مَشْوِيَّةٌ ، لَيْسَ عَلَيْهَا بَوَاسِيرُ ، وَلَيْسَ فِي جَوْفِهَا شَوْكٌ ، يَسِيلُ السَّمْنُ مِنْهَا سَيْلا ، قَدْ نُضِّدَ حَوْلَهَا فُضُولٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ غَيْرِ الْكُرَّاثِ ، وَعِنْدَ رَأْسِهَا خَلٌّ ، وَعِنْدَ ذَنَبِهَا مِلْحٌ ، وَحَوْلَ الْبُقُولِ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ ، عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا زَيْتُونٌ ، وَعَلَى الآخَرِ تَمَرَاتٌ ، وَعَلَى الآخَرِ خَمْسُ رُمَّانَاتٍ ، فَقَالَ شَمْعُونُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : يَا رُوحَ اللَّهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا هَذَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ : أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَعْتَبِرُوا بِمَا تَرَوْنَ مِنَ الآيَاتِ ، وَتَنْتَهُوا عَنِ الْمَسَائِلِ ، مَا أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ أَنْ تُعَاقَبُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ الآيَةِ ، فَقَالَ شَمْعُونُ : لا وَإِلَهِ إِسْرَائِيلَ مَا أَرَدْتُ بِهَذَا سُوءًا يَا ابْنَ الصِّدِّيقَةِ ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا تَرَوْنَ عَلَيْهَا مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ ، وَلا مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ابْتَدَعَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ بِالْقُدْرَةِ الْغَالِبَةِ الْقَاهِرَةِ ، فَقَالَ لَهُ : كُنْ فَكَانَ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَكُلُوا مَا سَأَلْتُمْ بِسْمِ اللَّهِ وَاحْمَدُوا عَلَيْهِ رَبَّكُمْ يُمِدَّكُمْ مِنْهُ ، وَيَزِدْكُمْ فَإِنَّهُ بَدِيعٌ قَادِرٌ شَاكِرٌ ، قَالُوا : يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تُرِيَنَا آيَةً فِي هَذِهِ الآيَةِ ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا اكْتَفَيْتُمْ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ حَتَّى تَسْأَلُوا إِلَيْهَا آيَةً أُخْرَى ، ثُمَّ أَقْبَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى السَّمَكَةِ ، فَقَالَ : يَا سَمَكَةُ عُودِي بِإِذْنِ اللَّهِ حَيَّةً كَمَا كُنْتِ ، فَأَحْيَاهَا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ فَاضْطَرَبَتْ ، وَعَادَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى حَيَّةً طَرِيَّةً ، تَلَمَّظُ كَمَا تَلَمَّظُ الأُسْدُ تَدُورُ عَيْنَاهَا لَهَا بَصِيصٌ ، وَعَادَتْ عَلَيْهَا بَوَاسِيرُهَا ، فَفَزِعَ الْقَوْمُ مِنْهَا وَانْحَاشُوا ، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، قَالَ : مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ الآيَةَ فَإِذَا أَرَاكُمُوهَا رَبُّكُمْ كَرِهْتُمُوهَا ، مَا أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ أَنْ تُعَاقَبُوا بِمَا تَصْنَعُونَ ، يَا سَمَكَةُ عُودِي بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا كُنْتِ فَعَادَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى مَشْوِيَّةً كَمَا كَانَتْ فِي خَلْقِهَا الأَوَّلِ ، فَقَالُوا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : كُنْ أَنْتَ يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ الَّذِي تَبْدَأُ بِالأَكْلِ ، ثُمَّ نَحْنُ بَعْدُ ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ يَبْدَأُ بِالأَكْلِ مَنْ طَلَبَهَا ، فَلَمَّا رَأَى الْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُمْ خَافُوا أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا سَخْطَةً ، وَفِي أَكْلِهَا مَثُلَةً ، فَتَحَامَوْهَا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ دَعَا لَهَا الْفُقَرَاءَ وَالزَّمْنَى ، وَقَالَ : كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ، وَدَعْوَةِ نَبِيِّكُمْ ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَهَا لِيَكُونَ مَهْنَأَهَا لَكُمْ ، وَعُقُوبَتُهَا عَلَى غَيْرِكُمْ ، وَافْتَتِحُوا أَكْلَكُمْ بِاسْمِ اللَّهِ وَاخِتِمُوهُ بِحَمْدِ اللَّهِ ، فَفَعَلُوا فَأَكَلَ مِنْهَا أَلْفٌ وَثَلاثُ مِائَةِ إِنْسَانٍ ، بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ يَصْدِرُونَ عَنْهَا ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَبْعَانُ يَتَجَشَّأُ ، وَنَظَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَالْحَوَارِيُّونَ ، فَإِذَا مَا عَلَيْهَا كَهَيْئَتِهَا إِذْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَاسْتَغْنَى كُلُّ فَقِيرٍ أَكَلَ مِنْهَا ، وَبَرِئَ كُلُّ زَمِنٍ أَكَلَ مِنْهَا ، فَلَمْ يَزَالُوا أَغْنِيَاءَ صِحَاحًا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَنَدِمَ الْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا نَدَامَةً سَالَتْ مِنْهَا أَشْفَارُهُمْ ، وَبَقِيَتْ حَسْرَتُها فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَمَاتِ ، قَالَ : فَكَانَتِ الْمَائِدَةُ إِذَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَقْبَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُزَاحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، الأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالأَصِحَّاءُ وَالْمَرْضَى ، يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَعَلَهَا نَوَائِبَ بَيْنَهُمْ ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ غِبًّا ، وَتَنْزِلُ يَوْمًا وَلا تَنْزِلُ يَوْمًا ، كَنَاقَةِ ثَمُودَ تَرِدُ مَاءَهُمْ يَوْمًا وَتَغِيبُ عَنْهُمْ فِي رَعْيِهَا يَوْمًا ، فَلَبِثُوا فِي ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، تَنْزِلُ غِبًّا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَلا تَزَالُ مَوْضُوعَةً يُؤْكَلُ مِنْهَا ، حَتَّى إِذَا قَامُوا ارْتَفَعَتْ عَنْهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى جَوِّ السَّمَاءِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا فِي الأَرْضِ حَتَّى تَوَارَى عَنْهُمْ ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنِ اجْعَلْ رِزْقِي فِي الْمَائِدَةِ لِلْيَتَامَى ، وَالْفُقَرَاءِ ، وَالزَّمْنَى ، دُونَ الأَغْنِيَاءِ مِنَ النَّاسِ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ ارْتَابَ بِهَا الأَغْنِيَاءُ وَغَمَصُوا ذَلِكَ حَتَّى شَكُّوا فِيهَا وَشَكَّكُوا فِيهَا النَّاسَ ، وَأَذَاعُوا فِي أَمْرِهَا الْقَبِيحَ وَالْمُنْكَرَ ، وَأَدْرَكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ حَاجَتَهُ ، وَقَذَفَ وَسَاوِسَهُ فِي قُلُوبِ الْمُرْتَابِينَ حَتَّى قَالُوا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : أَخْبِرْنَا عَنِ الْمَائِدَةِ وَنُزُولِهَا مِنَ السَّمَاءِ ، فَإِنَّهُ قَدِ ارْتَابَ بِهَا بَشَرٌ مِنَّا كَثِيرٌ ، قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : هَلَكْتُمْ وَإِلَهِ الْمَسِيحِ ، طَلَبْتُمُ الْمَائِدَةَ إِلَى نَبِيِّكُمْ أَنْ يَطْلُبَهَا لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ، فَلَمَّا أَنْ فَعَلَ كَذَّبْتُمْ بِهَا وَشَكَّكْتُمْ فِيهَا ، فَأَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ إِلا أَنْ يَرْحَمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا ، إِنِّي آخِذُ الْمُكَذِّبِينَ بِشَرْطِي ، فَإِنِّي مُعَذِّبٌ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مُشْتَكِيًا لِرَبِّهِ : إِلَهِي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، فَلَمَّا أَمْسَى الْمُرْتَابُونَ بِهَا وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مَعَ نِسَائِهِمْ آمِنِينَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ مَسَخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى خَنَازِيرَ ، وَأَصْبَحُوا يَتَّبِعُونَ الأَقْذَارَ فِي الْكُنَاسَاتِ ، وَأَمْسَى سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَطِيفُونَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ خَوْفًا وَرُعْبًا مِمَّا لَقِيَ أَصْحَابُهُمْ ، فَلَمَّا خَرَجَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، أَقْبَلَتِ الْخَنَازِيرُ تَسْعَى إِلَيْهِ وَتَلُوذُ بِهِ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ خَرَّتْ لَهُ سُجُودًا وَدُمُوعُهَا تَسِيلُ ، فَجَعَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يُسَمِّي رِجَالا مِنْهُمْ ، يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، يَا فُلانُ ، يَا فُلانُ ، فَيُومِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرَأْسِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ الْكَلامَ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أُحَذِّرُكُمْ عِقَابَ اللَّهِ وَأُنْذِرُكُمْ عَذَابَهُ ، وَكَأَنِّي كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ مَمْسُوخِينَ مَثُلَةً مِنَ الْمَثُلاتِ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ ذَلِكَ حِينَ اسْتَعْجَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِالْعَذَابِ ، وَقَالَ : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ سورة الرعد آية 6 ، وَقَالَ : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى وَكَانُوا يَعْتَدُونَ سورة المائدة آية 78 . فَقَامُوا بِذَلِكَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، وَأَهْلُوهُمْ يَبْكُونَ حَوْلَهُمْ ، وَقَدْ رَقَّ لَهُمُ النَّاسُ وَخَافُوا مَا نَزَلَ بِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُمِيتَهُمْ ، فَأَمَاتَهُمُ الْيَوْمَ الرَّابِعَ فَلَمْ يُرَ لَهُمْ جِيفَةٌ فِي الأَرْضِ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيْنَ كَانَتْ جِيَفُهُمْ ؟ غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ عُقُوبَةً اسْتَأْصَلَتْ أَهْلَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ أَثَرٌ فِي الأَرْضِ .