قَالَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ الْعَابِدِ , يَقُولُ : " خَرَجْتُ يَوْمًا أَطْلُبُ رَجُلًا يَرُمُّ لِي شَيْئًا فِي الدَّارِ ، فَذَهَبْتُ فَأُشِيرَ إِلَيَّ بِرَجُلٍ حَسِنِ الْوَجْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مِرْوَزٌ وَزَنْبِيلٌ ، فَقُلْتُ : أَتَعْمَلُ لِيَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقُلْتُ : بِكَمْ ؟ قَالَ : بِدِرْهَمٍ وَدَانِقٍ ، فقلت : له قم ، فقام فعمل ذلك اليوم عمل ثلاثة رجال ، ثم أتيته في اليوم الثاني ، فسألت عنه ، فقيل لِي : ذَلِكَ الرَّجُلُ لَا يُرَى فِي الْجُمْعَةِ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا يَوْمُ كَذَا ، فَتَرَبَّصْتُ حَتَّى أَتَى الْيَوْمُ الَّذِي وَصَفُوهُ ، ثُمَّ جِئْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِرْوَزٌ وَزَنْبِيلٌ ، فَقُلْتُ لَهُ : أَتَعْمَلُ لِي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : بِكَمْ ؟ قَالَ : بِدِرْهَمٍ وَدَانِقٍ ، فقلت : قم ، فقام فعمل ذلك اليوم عمل ثلاثة رجال ، فلما كان بالمساء وزنت درهمين ودانقين وأحببت أَنْ أَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ . قَالَ لِي : مَا هَذَا ؟ قُلْتُ : دِرْهَمَانِ وَدَانِقَانِ . قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ بِدِرْهَمٍ وَدَانِقٍ ، قَدْ أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أُجْرَتِي لَسْتُ آخِذًا مِنْكَ شَيْئًا ، قَالَ : فَوَزَنْتُ لَهُ دِرْهَمًا وَدَانِقًا ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ وَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي : سُبْحَانَ اللَّهِ أَقُولُ لَا آخُذُ وَتُلِحُّ عَلَيَّ ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ وَمَضَى ، فأقبلت على أهلي ، فقالت : فعل الله بك ما أردت من الرجل قد عمل لك عمل ثلاثة أيام ، وأفسدت عليه أجرته . قَالَ : فَجِئْتُ يَوْمًا أَسْأَلُ عَنْهُ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ مَرِيضٌ فَاسْتَدْلَلْتُ عَلَى بَيْتِهِ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مَبْطُونٌ فِي خَرِبَةٍ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ إِلَّا ذَلِكَ الْمِرْوَزُ وَالزِّنْبِيلُ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ، فَقُلْتُ لَهُ : لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ وَتَعْرِفُ فَضْلَ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَ إِلَى بَيْتِي أُمَرِّضُكَ ، قَالَ : أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : آتِيكَ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : أَحَدُهَا أَنْ لَا تَعْرِضَ عَلَيَّ طَعَامًا حَتَّى أَسْأَلَكَ ، قُلْتُ : نَعَمْ . وَالثَّانِيَةُ : إِذَا أَنْ تَدْفِنَنِي فِي كِسَائِي هَذَا وَجِبَّتِي هَذِهِ ، فَقُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : أَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ أَشَدُّ مِنْهُمَا ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْهَا ، فَحَمَلْتُهُ إِلَى مَنْزِلِي عِنْدَ الظُّهْرِ ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ مِنَ الْغَدِ نَادَانِي : يَا عَبْدَ اللَّهِ فَأَتَيْتُهُ ، فَقُلْتُ : مَا شَأْنُكَ قَالَ : الْآنَ أُخْبِرُكَ عَنْ حَاجَتِي الثَّالِثَةِ ، وَإِنِّي قَدِ احْتَضَرْتُ يَعْنِي قَدْ حَضَرَتْ وَفَاتِي ، ثُمّ قَالَ : افْتَحْ صُرَّةً عَلَى كُمِّ جَيْبِي فَفَتَحْتُهَا فَإِذَا فِيهَا خَاتَمٌ لَهُ فَصٌّ أَخْضَرُ ، فَقَالَ لِي : إِذَا أَنَا مُتِّ وَدَفَنْتَنِي فَخُذْ هَذَا الْخَاتَمَ وَادْفَعْهُ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ صَاحِبُ وَيْحَكَ هَذَا الْخَاتَمِ لَا تَمُوتَنَّ عَلَى سَكْرَتِكَ هَذِهِ ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى سَكْرَتِكَ نَدِمْتَ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَمَّا دَفَنْتُهُ سَأَلْتُ عَنْ يَوْمِ خُرُوجِ هَارُونَ الرَّشِيدِ ، وَكَتَبْتُ لَهُ الْقِصَّةَ وَتَعَرَّضْتُ لَهُ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ ، وَتَأَذَّيْتُ أَذًى شَدِيدًا فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ وَقَرَأَ الْقِصَّةَ قَالَ : عَلَيَّ بِصَاحِبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكَ ، فَأَخْرَجْتُ الْخَاتَمَ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ قَالَ : مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ، فَقُلْتُ : دَفَعَهُ إِلَيَّ رَجُلٌ طَيَّانُ وَنَظَرْتُ إِلَى دُمُوعِهِ تَتَحَدَّرُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ ، وَمِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى ثِيَابِهِ وَيَقُولُ : طَيَّانٌ طَيَّانٌ وَقَرَّبَنِي مِنْهُ وَأَدْنَانِي ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَوْصَانِي أَيْضًا وَقَالَ : إِذَا أَوْصَلْتَ إِلَيْهِ الْخَاتَمَ قُلْ لَهُ : إِنَّهُ يُقْرِئُكَ صَاحِبُ هَذَا الْخَاتَمِ السَّلَامَ ، وَيَقُولُ لَكَ لَا تَمُوتَنَّ عَلَى سَكْرَتِكَ هَذِهِ ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى سَكْرَتِكَ هَذِهِ نَدِمْتَ ، فَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا ، فَضَرَبَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْبِسَاطِ ، وَهُوَ يَتَقَلَّبُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَيَقُولُ : يَا بُنَيَّ نَصَحْتَ أَبَاكَ حَيًّا وَمَيِّتًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : كَأَنَّهُ ابْنُهُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ ، فَبَكَى بُكَاءً طَوِيلًا ، ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءُوا بِالْمَاءِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ عَرَفْتَهُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا طَوِيلًا ، ثُمَّ قَالَ : كَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِي ، فَكَانَ أَبِي الْمَهْدِيُّ ذَكَرَ لِي أَنْ يُزَوِّجَنِي زُبَيْدَةَ ، فَنَظَرْتُ يَوْمًا إِلَى امْرَأَةٍ فَعَلِقَ قَلْبِي بِهَا ، فَتَزَوَّجْتُهَا سِرًّا مِنْ أَبِي وَأَوْلَدْتُهَا هَذَا الْوَلَدَ فَأَنْفَذْتُهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ ، وَدَفَعْتُ إِلَيْهِمَا هَذَا الْخَاتَمَ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَقُلْتُ لَهَا : اكْتُمِي نَفْسَكِ فَإِذَا بَلَغَكِ أَنِّي قَدْ قَعَدْتُ لِلْخِلَافَةِ فَأْتِنِي ، فَلَمَّا قَعَدْتُ لِلْخِلَافَةِ سَأَلْتُ عَنْهُمَا فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمَا مَاتَا ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ بَاقٍ فَأَيْنَ دَفَنْتَهُ ؟ فَقُلْتُ : دَفَنْتُهُ فِي مَقَابِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً إِذَا كَانَ بَعْدُ الْمَغْرِبِ وَقَفْتَ لِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ مُتَنَكِّرًا فَأَخْرُجُ إِلَى قَبْرِهِ ، فَأَزُورَهُ ، فَوَقَفْتُ لَهُ فَخَرَجَ الْخَدَمُ حَوْلَهُ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي فَجِئْتُ بِهِ إِلَى قَبْرِهِ ، فَمَا زَالَ لَيْلَتَهُ يَبْكِي إِلَى الصُّبْحِ ، وَيَقُولُ : يَا بُنَيَّ نَصَحْتَ أَبَاكَ حَيًّا وَمَيِّتًا ، فَجَعَلْتُ أَبْكِي لِبُكَائِهِ رِقَّةً مِنِّي لَهُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، ثُمَّ رَجَعَ حَتَّى إِذَا دَنَا إِلَى الْبَابِ فَقَالَ لِي : قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَأَمَرْتُ بِأَنْ تَجْرِيَ عَلَيْكَ فَإِذَا أَنَا مُتُّ أَوْصَيْتُ مَنْ يَلِي مِنْ بَعْدِي أَنْ يُجْرَى عَلَيْكَ مَا بَقِيَ لَكَ عَقِبِي ، فَإِنَّ لَكَ عَلَيَّ حَقًّا بِدَفْنِكَ وَلَدِي ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْبَابَ قَالَ لِي : انْظُرْ إِلَى مَا أَوْصَيْتُكَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَقُلْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَرَجَعْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَلَمْ أَعُدْ إِلَيْهِ .