" كَمَا فَعَلَ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ ، فَبَكَى إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَذَهَبَ مَلَكُ الْمَوْتِ ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ وَمَاءُ الْعِنَبِ يَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ كَمْ أَتَى لَكَ ؟ فَذَكَرَ مِثْلَ سِنِّ إِبْرَاهِيمَ ، فَاشْتَهَى إِبْرَاهِيمُ الْمَوْتَ فَقَبَضَ رُوحَهُ " ذَكَرَ ذَلِكَ حَمَّادٌ ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ ، عَنْ كَعْبٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ . فَهَذِهِ لَطِيفَةٌ أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ فِي إِزَالَةِ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنْهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهَا نَظَائِرَ قَبْلُ . وَقَوْلُهُ " وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ " ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمُؤْمِنَ ، وَخَلَقَ سَائِرَ الأَشْيَاءِ لَهُ ، فَقَالَ : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ سورة الجاثية آية 13 ، فَأَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحِلَّ الْمُؤْمِنَ فِي جِوَارِهِ ، وَيُنْزِلَهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَهَبَ لَهُ مِنْ مُلْكِهِ ، وَيَجْعَلَهُ بَاقِيًا مَلِكًا لا يَفْنَى مُلْكُهُ ، حَيًّا لا يَمُوتُ أَبَدًا لا يَزُولُ ، يُحِلُّ عَلَيْهِ كَرَامَتَهُ ، وَيُلَذِّذُهُ بِرُؤْيَتِهِ ، وَيُكْرِمُهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ ، وَحَكَمَ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ , وَلا يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَيْهِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْمَوْتِ لِيَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ الْجَلِيلَةِ ، وَالرُّتْبَةِ السَّنِيَّةِ ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كَرِهَ اللَّهُ مَسَاءَتَهُ فِي ذَلِكَ ، وَأَزَالَهَا عَنْهُ بِلَطَائِفَ يُحْدِثُهَا لَهُ وَفِيهِ ، سُبْحَانَ اللَّطِيفِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلُهُ : " مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ " ، لَيْسَ مِنْ قَدْرِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ ، وَسِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ ، وَنَقْصُ الْحَدَثِ فِيهِ بَيِّنٌ ، وَحَقَارَةُ الْبِنْيَةِ لَهُ لازِمَةٌ ، فَبِأَيِّ صِفَةٍ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إِلَى غَنِيٍّ مُحْتَاجٌ , وَمَلِكٍ لا يُطَاقُ ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ، وَإِنَّمَا يُقَرِّبُهُ اللَّهُ مِنْهُ ، يَتَقَرَّبُ بِلُطْفِهِ إِلَيْهِ ، فَأَمَرَهُ بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَهَا عَلامَتَهُ لِمَنْ لَهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ ، فَمَنْ أَقَامَ أَوَامِرَهُ ، وَأَدَّى فَرَائِضَهُ فَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، فَصَارَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ تَقَرُّبًا مِنْهُ ، وَإِقَامَةُ أَوَامِرِهِ تَوَسُّلا إِلَيْهِ ، وَأُخْرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ تَوَقَّى فَلا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَدَنَّسَ بِالْخَطَايَا ، وَيَتَلَطَّخَ بِالْمَعَاصِي ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُدُّوسٌ طَاهِرٌ . وَفِي الْحَدِيثِ " إِنَّ الْقُدُّوسَ الأَعْلَى لا يَقْرَبُهُ إِلا قِدِّيسٌ طَاهِرٌ " ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ لِيَطَّهْرُوا بِهَا مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ ، وَيَتَنَظَّفُوا مِنْ أَرْجَاسِ الْعُيُوبِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ سورة هود آية 114 ، وَقَدْ قَالَ : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا سورة التوبة آية 103 ، وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ سورة البقرة آية 222 فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ تَطَهَّرُوا فَصُلُحُوا لِدَارِ الطَّهَارَةِ وَقُرْبَةِ الْقُدُّوسِ . وَقَوْلُهُ " وَلا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ " لَمَّا عَلِمَ الْمُؤْمِنُ الْوَجْهَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِطَهَارَتِهِ ، وَالْعَمَلَ الَّذِي هُوَ عَلامَةُ مَنْ قَرَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ، وَهُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ ، أَدَّى فَرَائِضَهُ بَاذِلا فِيهَا مَجْهُودَهُ ، وَكَانَتِ الْفَرَائِضُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْدُودَةٍ تُسَارِعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الأَعْمَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الأَفْعَالِ طَلَبًا لازْدِيَادٍ مِنَ السَّبَبِ الْمُقَرِّبِ إِلَيْهِ ، وَالسِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، فَزَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّةً إِلَى تَقْرِيبِهِ مِنْهُ كَمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تعَبُّدًا فِي حَالِ الْحُرِيَّةِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ ، فَإِنَّ مَثَلَ الْعَبْدِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مَثْلُ الْمُكَاتَبِ ، كَاتَبَهُ مَوْلاهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ نُجُومًا ، فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ عَتَقَ ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فُرُوضًا مَحْدُودَةً ، وَأَلْزَمَهُ أُمُورًا مَحْدُودَةً مُؤَقَّتَةً ، فَإِذَا أَدَّاهَا خَرَجَ مِنْ رِقِّهَا ، فَهُوَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ وَقْتٌ آخَرُ عَتِيقٌ فِي عَمَلِهِ ، وَإِلَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَرْضٌ ثَانٍ حُرٌّ ، فَمَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ شَوْقًا إِلَى مَوْلاهُ اسْتَحَقَّ الْمَحَبَّةَ ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الرِّقِّ اسْتَوْجَبَ الْقُرْبَةَ . وَقَوْلُهُ : " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَحْدَثَ فِيهِ حُبًّا لِلَّهِ ، فَيُحِبُّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ سورة البقرة آية 165 ، وَقَالَ تَعَالَى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ سورة المائدة آية 54 فَالْمَحْبُوبُ مُحِبٌّ ، وَالْمُحِبُّ مُنْخَلِعٌ مِنْ جَمِيعِ شَهَوَاتِهِ ، خَارِجٌ مِنْ جَمِيعِ صِفَاتِهِ ، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْمُحِبِّ أَفْنَتْهُ عَنْهُ ، وَسَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ ، وَاصْطَفَتْهُ مِنْ نُعُوتِهِ فَأَصَمَّهُ وَأَعْمَاهُ ، وَعَنْ جَمِيعِ الأَشْيَاءِ بِهِ أَبْلاهُ .
الأسم | الشهرة | الرتبة |