محاورة بين ابن عباس ومعاوية


تفسير

رقم الحديث : 521

حدثنا أَبُو النضر العقيلي , قَالَ : حَدَّثَنَا يعقوب بْن نعيم الكاتب ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن ضوء التيمي ، قَالَ : سمعت إسماعيل بْن جامع السهمي , يقول : ضمني الدهر ضمًا شديدًا بمكة ، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة ، فأصبحت يومًا لا أملك إلا ثلاثة دراهم ، فخرجت وهي في كمي ، فإذا بجارية حميراء على رقبتها جرة تريد الركي ، تمشي بين يدي وتترنم بصوت شجي ، تقول فيه : شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا وذلك أن النوم يغشى عيونهم سراعا ومما يغشى لنا النوم أعينا إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا فلوا أنهم كانوا يلاقون مثل ما نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا فوالله ما دار لي منه حرف واحد , فقلت لها : يا جارية ما أدري أوجهك أم صوتك أم جرمك ، فإن شئت أعدتيه علي . فقالت : حبًا وكرامة ، ثُمَّ أسندت ظهرها إلى جدار كان بالقرب منها ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على ركبتها , وحطت الجرة فوضعتها على ساقها , واندفعت تغني بأحسن صوت ، فوالله ما دار لي منه حرف واحد ، فقلت لها : لقد أحسنت وتفضلت فلو شئت أعدتيه مرة أخرى ، فقطبت وكلحت . وقالت ما أعجب هذا ، أحدكم يجيء إلى الجارية عليها ضريبة , فيقول لها أعيدي مرة بعد أخرى ، فضربت يدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها , وقلت لها أقيمي بهذا وجهك اليوم إلى أن نلتقي ، فأخذتها شبه المتكرهة , ثُمّ قالت : الآن تريد أن تأخذ عني صوتًا أحسبك تأخذ عليه ألف دينار ، وألف دينار ، ثُمَّ انبعث تغني وأعملت فكري في غنائها فدار لي الصوت وفهمته ، وانصرفت به مسرورًا إلى منزلي أردده على نفسي حتى خف على لساني ، ثُمَّ أقبلت أريد بغداد ، فأنزلني المكاري على باب المحول ، فدخلت لا أدري أين أتوجه ولا من أقصد ، وانتهى بي الناس إلى الجسر ، فعبرت في من عبرت حتى انتهوا بي إلى شارع الميدان عند دار الفضل بْن الربيع ، فرأيت هناك مسجدًا مرتفعًا , فقلت : هذا مسجد قوم سراة ، وحضرت المغرب , فصعدت المسجد فما لبثت أن جاء المؤذن, فأذن وأقام وصليت ، وانصرف الناس وأقمت مكاني إلى أن رجع المؤذن فأذن وأقام وصليت مع الناس على تعب وجوع ، وانصرف الناس وبقي رجل يصلي مليًا وخلفه جماعة من الخدم والفحولة ينتظرونه ، فلما فرغ من صلاته انصرف إلي ببدنه كله . فقال : أحسبك غريبًا ، قلت : أجل ، قَالَ : متى كنت بهذه المدينة ؟ قلت : آنفًا دخلتها ، وليس لي بها معرفة ، ليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير . قَالَ : وما صناعتك ؟ قلت : الغناء ، فوثب مبادرًا ووكل بي رجلا ، فقلت للموكل بي : من هذا ؟ قَالَ : أوما تعرفه ؟ هذا سلام الأبرش . قَالَ : وإذا رسول قد جاء في طلبي , ثُمَّ مشينا حتى انتهى بي إلى قصر من قصور الخلافة , وجعل يجاوز بي مقصورة بعد مقصورة إلى أن دخلنا مقصورة في آخر الدهليز ، فدعا لي بالطعام ، فأتيت بمائدة عليها من كل شيء ، فأقبلت على أكلي حتى تراجعت إلى نفسي ، وسمعت ركضًا في الدهليز ، فإذا إنسان , يقول : أين الرجل ، أين الرجل ؟ فقيل : هاهوذا ، فقال : يدعى له بغسول وطيب وخلعة ، فغلفت وخلع علي وأخذ الرجل بيدي , فحملني على دابة , وأتى بْن منزل الخليفة , فاستدللت على ذلك بالحرس والتكبير والنيران ، فما زال يدخلني من دار إلى دار إلى أن دخلت إلى دار قوراء , وإذا فيها أسرة مضاف بعضها إلى بعض ، فلما انتهيت إلى الأسرة أمرني بالصعود فصعدت ، وإذا رجل جالس على يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان ، وإذا في حجر الرجل عود , فسلمت فرحب بي , وأمرني بالجلوس فجلست ، وإذا مجالس خالية قد كان فيها قوم فقاموا عنها ، فما لبثت أن خرج خادم من وراء الستر , فقال للرجل : تغنه ، فاندفع يغني بصوت لي يقول فيه : لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ولم تر الشمس إلا دونها الكلل تمشي الهوينا كأن الشوك يحبسها مشي اليعافير في جيئاتها الوجل فوالله ما أحسن الغناء ، ولقد غنى بغير إصابة وأوتار متنافرة ودساتين مختلفة ، ثُمَّ عاد ذلك الخام إلى الجارية التي تلي الرجل , فقال لها : تغني فانبعثت تغني بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل تقول فيه : يا دار أضحت خلاء لا أنيس بها إلا الظباء وإلا الناشط الفرد أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا وطار عن قلبي التشواق والكمد ثم عاد الخادم إلى الجارية الثانية , فقال لها : تغني فانبعثت تغني بصوت حكم الوادي تقول فيه فوالله ما أدري أيغلبني الهوى إذا جد وشك البين أم أنا غالبه فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ففي دون ما لاقيت يغلب صاحبه ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة , فقال لها : تغني فغنت بصوت لحنين , تقول فيه : مررنا على قيسية عامرية لها بشر صافي الأديم هجان فقالت وألقت جانب السجف دونها من آية حي أو من الرجلان فقلت لها أما تميم فاسرتي هديت وأما صاحبي فيماني رفيقان ضم السف بيني وبينه وقد يلتقي الشتى فيأتلفان قال فعاد الخادم إلى الرجل فقال له : تغنه ، فغنى بصوت لي شبه فيه ، والشعر لعمر بْن أَبِي ربيعة والغناء للغريض , يقول فيه : أمسى بأسماء هذا القلب معمودا إذا أقول صحا يعتاده عيدا كأن أحور من غزلان شهيمة أعارها شبهًا خديه والجيدا قامت تراءى وقد جد الرحيل بنا لتنكأ القرح من قلب قد اصطيدا بنشرق كشعاع الشمس بهجته ومسبكر على لباتها سودا ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليه , فقال لها : تغني ، فغنت بصوت لحكم الوادي , يقول فيه : تعرينا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل وإنا لقوم ما نرى القتل سبة ذا كرهته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالنا لنا تكرهه آجالهم فتطول وتغنت الجارية الثانية عند قول الخادم لها تغني : وددتك لما كان ودك خالصًا وأعرضت لما صار نهبًا مقسمًا ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه إذا كثر الوارد أن يتهدما وغنت الثالثة بشعر الخنساء بنت عَمْرو بْن الحارث في أخيها صخر : وما كر إلا كان أول طاعن ولا أبصرته العين إلا اقشعرت فيدرك ثأرا ثُمَّ لم يخطه الغنى فمثل أخي يوما به العين قرت وإن طلبوا وترا بدا بتراتهم ويضربهم شزرا إذا الخيل ولت فلست أرزا بعده برزية فأذكره إلا سلت وتجلت وكان غناء الرجل في الدور الثالث : لحا الله صعلوكا يبيت وهمه من الدهر أن يلقى لبوسا ومطعما ينام الضحى حتى إذا نومه استوى تتنبه مسلوب الفؤاد مورما ولكن صعلوكا يساور همه ويمشي على الهيجاء ليثا مصمما فذلك إن يلق المنية تلقه كريما وإن يستغن يوما فربما وكان غناء الجارية في الدور الثالث بشعر لحاتم , يقول فيه : إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع رفيقك يمشي خلفها غير راكب أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب وكان غناء الجارية الثانية في الدور بشعر عَمْرو بْن معدي كرب : ألم تر لما ضمني البلد القفر سمعت نداء يصدع القلب يا عَمْرو أغثنا فإنا معشر مذحجية نزار على وفر وليس لنا وفر وكان غناء الثالثة بشعر لعمر بْن أَبِي ربيعة والغناء فيه للغريض : فلما تلاقينا وسلمت أشرقت وجوه زهاها الحسن أن تنقنعا تبالهن بالعرفان لما رأينني وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا فلما تواضعنا الأحاديث قلن لي أخفت علينا أن نغر ونخدعا قال : فقلت في نفسي : أي شيء أنتظر ؟ الخادم الساعة يطالبني بمثل ما طالب به أصحابي ، فقلت للرجل : بأبي أنت خذ العود إليك وشد وتر كذا وارفع الطبقة وغير وتر كذا وحط دستان كذا ، فعلم ما أريد فوزنه ، فلم البث أن خرج الخادم , فقال لي : تغنه ، عافاك الله ، فانبعثت أغني بصوت الرجل الأول على غير ما غنى به , فإذا ينجو من خمسين أو ستين خادمًا يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة , ثُمَّ قالوا : ويحك لمن هذا الغناء ؟ قلت : لي ، فانصرفوا عني بتلك السرعة ، فخرج إلي الخادم , فقال : كذبت هذا الغناء لابن جامع فسكت ، ودار الدور فلما انتهى إلي خرج الخادم , فقال : تغنه ، فقلت للجارية التي تلي الرجل : خذي العود , فانبعثت أغني صوتها ، فخرجت الجماعة من الخدم , فقالوا : ويحك لمن هذا ؟ فقلت : لي : فمضوا ورجع الخادم , فقال لي : كذبت ، هذا لابن جامع ، فأمسكت عَنْهُ ودار الدور ، فلما بلغ إلي خرج الخادم فقال : تغنه ، فقلت في نفسي ، وقد شربت وقويت منتي : ما أنتظر ؟ فاندفعت أغني بصوت لا يعرف إلا بي : عوجي علي فسلمي جبر فيم الوقوف وأنتم سفر ما نلتقي إلا ثلاث مني حتى يفرق بيننا النفر قال : فتزلزلت والله عليهم الدار ، وخرج الخادم , فقال : ويحك ، لمن هذا ؟ فقلت : لي ، قَالَ : فرجعوا , فقالوا : هذا لابن جامع ، فقلت : أنا إسماعيل ابْن جامع ، قَالَ : فما شعرت إلا وأمير المؤمنين , وجعفر بْن يحيى قد أقبلا من وراء الستر ، فلما صعدا السرير وتثبت على قدمي ، فابتدأني أمير المؤمنين , فقال : ابْن جامع ؟ فقلت : ابْن جامع جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين ، قَالَ : ويحك متى كنت من هذه المدينة ؟ قلت : آنفًا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين ، قَالَ : أجلس ويحك يا ابْن جامع ، وجلس أمير المؤمنين , وجعفر بْن يحيى في بعض تلك المجالس الفرغ , وقال لي : يا ابْن جامع ، أبشر وأبسط أملك ، فدعوت له دعوات , ثُمَّ قَالَ : عن يا ابْن جامع ، قَالَ : فخطر بقلبي صوت الجارية المدينية ، فقلت للرجل : أصلح عودك وارفع طبقته , قَالَ : فعلم ما أريد فوزن العود وزنًا ، وتعهدته حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها ، وانبعثت أغني بصوت الجارية الحميراء ، فنظر أمير المؤمنين إلى جَعْفَر بْن يحيى , فقال له : أسمعت كذا قط ؟ قَالَ : لا والله يا أمير المؤمنين ما سمعت ولا خرق سمعي مثله قط ، ولا ظننت أن الله عز وجل خلق على وجه الأرض مثل ما أسمع ، قَالَ : فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه , فقال له : كيس فيه ألف دينار , قَالَ : فمضى الخادم فلم يلبث أن عاد بكيس فيه ألف دينار ، فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين ، فقال لي : يا ابْن جامع رد على أمير المؤمنين هذا الصوت ، فرددته وتزيدت في غنائي وأعانني على ذلك استواء الأوتار ، قَالَ : فنظر جَعْفَر إلى أمير المؤمنين , فقال : يا سيدي أما تسمعه كيف يتزايد في الغناء ؟ هذا خلاف الذي سمعنا أولا ، على أن الأمر فيه واحد ، قَالَ : فرفع الرشيد رأسه إلى الخادم , فقال : كيس فيه ألف دينار ، فمضى الخادم وجاء بكيس فيه ألف دينار فرمى به غلي فصيرته تحت فخذي ، ثُمَّ قَالَ لي أمير المؤمنين : تغن ما حضرك ، فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيه ، فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل ، فقال : يا إسماعيل قد أتعبناك في هذه الليلة لسروري بغنائك ، فتعيد علي الصوت الذي تغنيت به أولا ، يعني صوت الجارية فغنيته إياه ، فرفع رأسه إلى الخادم فقال : كيس فيه ألف دينار ، وذكرت قول الجارية : إني أحسبك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينار ، فكان مني شبه التبسم ، ولحظني من بين الشمع , فقال لي : مم تبسمت ؟ قَالَ : فجثوت على ركبتي , ثُمَّ قلت : يا أمير المؤمنين الصدق منجاة ، فقال لي بانتهار : قل : فحدثته حديث الجارية , فقال : صدقت قد يكون هذا وأعجب منه ، ثُمَّ قَالَ لي : انصرف مودعًا , فقمت لا أدري إلى أين انفذ ذلك الوقت ، فما هو إلا أن نزلت من الأسرة حتى وثب إلي غفيران من الفراشين ، فأخذ أحدهما بيدي اليمنى والآخر باليسرى , ومضيا بي لا أدري أين توجهان بي ، حتى وقفا بين على باب داري هذه ، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلاما فابتاع لي هذه الدار وحول أهلها ، وحشيت بالفرش والوصائف والوصفاء والطعام والشراب ، ودفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح , وقال لي : ادخل بارك الله لك فيها ، وهذا مفتاح بيت كذا ، وهذا مفتاح بيت كذا ، وهذا مفتاح حجرة الجواري ، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنيتك ، وأوقفني على ما أردت ، فأصبحت وأنا من مياسير أهل بغداد ، ودخلتها ، وأنا أفقر أهلها ، والحمد لله رب العالمين .

الرواه :

الأسم الرتبة

Whoops, looks like something went wrong.