حَدَّثَنَا أَبُو النضر العقيلي ، قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم النوشجاني ، قَالَ : قَالَ الْحَسَن بن عبد الجبار المعروف بالعرق : بينا المأمون فِي بعض مغازيه يسير مفردًا ، عَن أصحابه ومعه عُجَيْف بن عنبسة : " إذ طلعَ رجلٌ متحنّطٌ متكفّن ، فلمّا عاينه المأمون وقف ، ثُمَّ التفت إلى عجيف ، فقال : ويحك أما ترى صاحب الكفن مقبلا يريدني ، فقال لَهُ عجيف : أُعيذكَ بالله يا أمير المؤمنين ، قَالَ : فما كذب الرجل أن وقف على المأمون ، فقال لَهُ المأمون : من أردت يا صاحب الكفن ، وإلى من قصدت ؟ قَالَ : إياك أردت ، قَالَ : أَوَ عرفتني ؟ قَالَ : لو لَمْ أعرفك ما قصدتك ، قَالَ : أفلا سلَّمْت عليَّ ؟ قَالَ : لا أرى السَّلام عليك ، قَالَ : ولِم ؟ قَالَ : لإفسادك علينا الغَزَاةَ ، قَالَ عجيف : وأنا ألين مسَّ سيفي لئلا يبطئ ضرب عنقه ، إذ التفت المأمون ، فقال : يا عجيف إني جائع ، ولا أرى لجائع ، فخذه إليك حَتَّى أتغدى وأدعو بِهِ ، قَالَ : فتناوله عجيفُ فوضعه بين يديه ، فلمّا صار المأمون إلى رحله دعا بالطعام ، فلمّا وُضِعَ بين يديه أمره برفعه ، وقال : والله ما أسيغه حَتَّى أناظرَ خصمي ، يا عُجيف عليّ بصاحب الكفن ، قَالَ : فلمّا جلس بين يديه ، قَالَ : هيهِ يا صاحبَ الكفن ماذا قلت ؟ قَالَ : قلتُ : لا أرى السَّلام عليك لإفسادك الغزاة علينا ، قَالَ : بِماذا أفسدتها ؟ قَالَ : بإطلاقك الخمور تباع فِي عسكرك ، وقد حرمّها الله عَزَّ وَجَلَّ فِي كتابه ، فابدأ بعسكرك فنظِّفْهُ ، ثُمَّ اقصد الغزو ، لماذا استحللت أن تبيحَ شيئًا قد حرّمه الله كهيئة ما أحل الله عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : أو عرفت الخمر أنَّها تُباعُ ظاهرًا أو رأيتها ؟ قَالَ : لَو لَمْ أرَها وتصحَّ عندي ما وقفت هذا الموقف ، قَالَ : فشيء سوى الخمر أنكرته ؟ قَالَ : نعم ، إظهارك الجواري فِي العماريّات ، وكشفهنَّ الشعور منهن بين أيدينا كأنهنَّ فِلَقُ الأقمار ، خرج الرجلُ منا يريدُ أن يُهراقَ دمه فِي سبيل الله ، ويُعْقَرَ جواده قاصدًا نحو العدو ، فإذا نظر إليهنَّ أَفْسدنَ قلبه وركن إلى الدُّنْيَا ، وانصاع إليها ، فلم استحللت ذَلِكَ ؟ قَالَ : ما استحللت ذلك ، وسأخبرك بالْعُذر فِيهِ فإن كَانَ صوابًا وإلا رجعتُ . ثُمَّ قَالَ : شيء غير هذا أنكرته ؟ قَالَ : نعم ، شيء أمرت بِهِ ، تنهانا عَن الأمر بالمعروف ، قَالَ : أما الَّذِي يأمر بالمنكر فإني أنهاه ، وأمّا الَّذِي يأمرُ بالمعروف فإني أحثّه على ذَلِكَ وأحدوه عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : أفشيء سوى ذَلِكَ ؟ قَالَ : لا ، قَالَ : يا صاحب الكفن أمّا الخمرُ فلعمري لقد حرَّمها الله تعالى ، ولكن الخمر لا تُعْرَف إلا بثلاث جوارح : النَّظر والشَّم والذوق ، أفتشربها أنت ؟ قَالَ : معاذَ الله أن أنكرَ ما أشرب ، قَالَ : أفيمكن فِي وقتك هذا أن تقفنا على بيعها حَتَّى نوجّه معك من يشتري منها ؟ قَالَ : فمن يظهرها لي ، أو يبيعنيها وعليّ هذا الكفن ؟ قَالَ : صدقت . قَالَ : فكأنك إنَّما عرفتها بهاتين الجارحتين ، يا عجيف عليّ بقوارير فيها شراب . فانطلق عجيف فأتاهُ بعشرين قارورة ، فوضعها بين يديه فِي أيدي عشرين وصيفًا ، ثُمَّ قَالَ : يا صاحب الكفن ، نُفِيتُ من آبائي الراشدين المهديين إن لَمْ تكن الخمر فيها ، فإنَّك تعلم أن الخمر من ستر الله على عباده ، وإنه لا يَجوز لك أن تشهدَ على قومٍ مستورين إلا بمعاينة بيّنة وعلم ، ولا يَجوز لي أن آخذ إلا بِمعاينة بينة ، وشاهدي عدل . قَالَ : فنظر صاحبُ الكفن إلى القوارير ، فقال لَهُ عجيف : أيُّها الرجل لو كنت خمّارًا ، ما عرفت موضع الخمر بعينها من هذه القوارير ، قَالَ ، فقال لَهُ : هذه الخمر بعينها من هذه القوارير ، فأخذ المأمون قارورة فذاقها ثُمَّ قطَّب ، ثُمَّ قَالَ : يا صاحب الكفن انظر هذه الخمر ، فتناولَ الرجل القاروة ، فذاقها فإذا خلُّ ذابح ، فقال : قد خرجت هذه عَن حد الخمر ، فقال المأمون : صدقت إنَّ الخلّ مصنوعٌ من الخمر ، لا يكون خلًّا حَتَّى يكون خمرًا ، ولا والله ما كانت هذه خمرًا قط ، وما هُوَ إلا رُمّان حامض يعصر لي أصطبغُ بِهِ من ساعته ، قد سَقَطَتِ الجارحتان وبقيَ الشمُّ ، يا عُجيف صيِّرها رصاصيّات وَأت بِهَا ، قَالَ : ففعل ، فعُرضت على صاحب الكفن ، فشمَّها فوقع مَشَمُّه منها على قارورة فيها ميبختج ، فقال : هذه ، فأخذها المأمون فصبَّها بين يديه ، وقال : انظر إليها كأنَّها طلا قد عقدتها النار ، بَلْ تُقْطَعُ بالسكين ، قد سقطت إحدى الثلاث التي أنكرت يا صاحب الكفن ، ثُمَّ رفع المأمون رأسه إلى السماء ، فقال : اللَّهُمَّ إني أتقرَّبُ إليك بنهي هذا ونظرائه عَن الأمر بالمعروف , يا صاحب الكفن أدخلك الأمر بالمعروف فِي أعظم المنكر ، شَنَّعْتَ على قومٍ باعوا من هذا الخلَّ ومن هذا الميبختج ، الَّذِي شممت فلم تسلّم ، استغفر الله من ذنبك هذا العظيم وتب إِلَيْهِ . ما الثاني ؟ قَالَ : الجواري ، قَالَ : صدقت ، أخرجتهنّ أبقى عليك ، وعلى المسلمين ، كرهتُ أن تراهنَّ عيونُ العدو ، والجواسيس فِي العماريّات والقباب ، والسجوف عليهنَّ ، فيتوهّون أنهنّ بنات وأخوات فيجدون فِي قتالنا ويحرصون على الغلبة على ما فِي أيدينا حَتَّى يجتذبوا خطامَ واحد من هذه الإبل يستقيدونكم بكل طريق إلى أن يتبين لَهُم أنهنَّ إماء ، فأمرت برفع الظلال عنهن وكشف شعورهن فعلم العدو أنهن إماء نقي بهنَّ حوافر دوابنا لا قدر لهنّ عندنا ، هذا تدبير دبَّرته للمسلمين ، ويعزُّ علي أن ترى لي حرمة ، فدع هذا فليس هُوَ من شأنك فقد صحَّ عندك أني فِي هذا مصيب وأنك أنكرتَ باطلا . أيّ شيء الثالثة ؟ قَالَ : الأمرُ بالمعروف ، قَالَ : نعم ، أرأيتك لو أنك أصبت فتاةً مع فتى قد اجتمعا فِي هذا الفجّ على حديث ، ما كنت صانعًا بِهما ؟ قَالَ : كنتُ أسألهما ما أنتما ، قَالَ : كنت تسألُ الرجل ، فيقول : امرأتي ، وتسألُ المرأة ، فتقول : زوجي ، ما كنت صانعًا بِهما ؟ قَالَ : كنت أحولُ بينهما فأحبسهما ، قَالَ حَتَّى يكون ماذا ؟ قَالَ : حَتَّى أسأل عنهما ، قَالَ : ومن تسأل عنهما ؟ قَالَ : كنت أسألهما من أين أنتما ، قَالَ : سألتُ الرجل من أين أنت ، فقال لك : أنا من أسبيجاب ، وسألتُ المرأة : من أي أنت ؟ فقالت : من أسبيجاب ، ابن عمِّي ، تزوّجنا وجئنا . كنت حابسًا الرجل والمرأة بسؤالك ، وتوهّمك الكاذب إلى أن يرجع الرسول من أسبيجاب ، فمات الرسول أو ماتا إلى أن يعود رسولك ، قَالَ : كنت أسألُ فِي عسكرك هاهنا ، قَالَ : فلعلك لا تصادف فِي عسكري هذا من أهل أسبيجاب إلى رجلا أو رجلين ، فيقولان لك : لا نعرفهما على هذا النسب . يا صاحب الكفن ما أحسبُكَ إلا أحدَ ثلاثة رجال ، إمّا رجل مديون ، وإما مظلوم ، وإما رجل تأوّلت فِي حديث أبي سعيد الخدري ، فِي خطبة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله ، قَالَ : وروي الحديث عَن هشيم ، وغيره ، ونحن نسمع الخطبة إلى مغيربان الشمس إلى أن بلغ إلى قَوْله : إن أفضل الجهاد كلمةُ حق عند سلطانٍ جائر ، فجعلتني جائرًا ، وأنت الجائر ، وجعلت نفسك تقوم مقام الآمر بالمعروف ، وقد ركبت من المنكر ما هُوَ أعظم عليك ، لا والله لا ضربتُكَ سوطًا ، ولا زدت على تخريق كفنك ، ونُفيتُ من آبائي الراشدين المهديين لئن قام أحد مقامك ، هذا لا يقوم بالحجة فِيهِ إن نقصتُهُ من ألف سوط ، ولآمرنَّ بصلبه فِي الموضع الَّذِي يقوم فِيهِ ، قَالَ : فنظرتُ إلى عجيف وهو يخرق كفن الرجل ، ويلقي عَلَيْهِ ثيابَ بياض " .