حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن القاسم الْكَوْكَبِيّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الفضل الربعي ، قَالَ : حَدَّثَنِي أبي ، قَالَ : بينا المنصور ذاتَ يومٍ يَخْطُب وقد علا بكاؤه إذ قام رجلٌ ، فقال : يا وصّاف تأمر بِما تجتنبه ، وتَنْهَى عمّا ترتكبه ، بنفسك فابدأ ثُمَّ بالناس . فنظر إِلَيْهِ المنصور ، وتأمّله مليًّا وقطع الخطبة ، ثُمّ قَالَ : يا عبد الجبار ، خُذْهُ إليك . فأخذه عبد الجبار ، وعاد إلى خطبته حَتَّى أتمّها ، وقضى الصلاة ، ثُمَّ دخلَ ودعا بعبد الجبار ، فقال لَهُ : ما فعل الرجل ؟ قَالَ : محبوسٌ عندنا يا أمير المؤمنين ، قَالَ : أملِ لَهُ ، ثُمَّ عَرِّضْ لَهُ بالدنيا ، فإن صَدَفَ عنها وقلاها فلعمري إنه لمريد ، وإن كَانَ كلامه ليقع موقعًا حسنًا ، وإن مالَ إلى الدُّنْيَا ورغبَ فيها إن لي فِيهِ أدبًا يزعه عَن الوثوب على الخلفاء ، وطَلَبِ الدُّنْيَا بعمل الآخرة . فخرج عبد الجبار ، فدعا بالرجل وقد دعا بغدائه ، فقال لَهُ : " ما حملكَ على ما صنعت ؟ قَالَ : حقّ كَانَ لله فِي عنقي ، فأدّيته إلى خليفته ، قَالَ : ادنُ فكُلْ من هذا الطعام حتى يدعو بك أمير المؤمنين ، قَالَ : لا حاجة لي فِيهِ ، قَالَ : وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيّتك حسنة فلا يفثأكَ عنها شيء . فدنا فأكلَ ، فلما أكلَ طمع فِيهِ . فتركه أيّامًا ، ثُمَّ دعاهُ ، وقال : لَهِيَ عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس ، فهل لك فِي جارية تؤنسك ، وتسكن إليها ؟ قَالَ : ما أكرهُ ذَلِكَ ، فأعطاهُ جارية ، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ : هذا الطعام قد أكلت ، والجارية قد قبلت ، فهل لك فِي ثيابٍ تكتسيها وتكسو عيالك إن كَانَ لك عيال ، ونفقة تستعين بِهَا على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين ؟ قَالَ : ما أكرهُ ذَلِكَ ، فأعطاهُ . ثُمَّ قَالَ لَهُ : ما عليك أن تصنع خلَّة تبلغ بِهَا الوسيلة من أمير المؤمنين إن أردت الوسيلةَ عنده إذا ذكرك ؟ قَالَ : وما هي ؟ قال : أولّيكَ الحسبةَ والمظالِم فتكون أحدَ عمّاله تأمرُ بِمعروفٍ ، وَتَنْهَى عَن مُنكر ، قَالَ : ما أكرهُ ذَلِكَ ، فولاهُ الحسبةَ والمظالِم . فلمّا انتهى عَلَيْهِ شهر ، قَالَ عبد الجبار للمنصور : الرجلُ الَّذِي تكلَّم بِما تكلم بِهِ ، فأمرتَ بحبسه قد أكلَ من طعام أمير المؤمنين ، ولبس من ثيابه ، وعان فِي نعمته . قَالَ القاضي : الصواب عندي وعاش فِي نعمته . وصار أحدَ ولاتِهِ ، وإن أحبَّ أمير المؤمنين أن أدخله عَلَيْهِ فِي زيّ الشيعة فعلت ، قَالَ : أدخله . فخرج عبد الجبار إلى الرجل ، فقال : قد دعا بك أميرُ المؤمنين ، وقد أعلمته أنك أحد عمّاله على المظالِم ، والحسبة ، فادخل عَلَيْهِ فِي الزيّ الَّذِي يُحبّ . فألبسه قباء بأَربند ، وعلَّق خنجرًا فِي وسطه وسيفًا بِمعاليق ، وأسبلَ جُمَّته ، ودخل ، فقال : السَّلام عليك يا أمير المؤمنين ورَحْمَةُ الله ، فقال : وعليك ، ألسْتَ القائم بنا والواعظ لنا ومُذَكِّرَنا بأيّام الله على رؤوس الملأ ؟ قَالَ : نعم ، قَالَ : فكيفَ حُلْتَ عَن مذهبك ؟ قَالَ : يا أمير المؤمنين فكرت فِي أمري ، فإذا أنا قد أخطأت فيما تكلّمت بِهِ ، ورأيتني مصيبًا فِي مشاركة أمير المؤمنين فِي أمانته . فقال : هيهات ، أخطأت استُك الحفرة ، هِبناكَ يومَ أعلنتَ الكلامَ ، وظننّا أنك أردتَ الله بِهِ ، فكففنا عنك ، فلمّا تبيَّنَ لنا أنك الدُّنْيَا أردْتَ جعلناكَ عِظةً لغيرك حتَّى لا يجترئ بعدكَ مُجْتَرِئٌ على الخلافة . أخرجه يا عبد الجبّار فاضرب عنقه ، فأخرجه فقتله " .