حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , حدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ الأَنْطَاكِيَّ ، يَقُولُ : " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ قَدْ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الأَعْمَالِ لَطِيفِ الْمَعْرِفَةِ بِالأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَدِيمُونَ بِهَا صَالِحَ الأَعْمَالِ , وَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهُ , وَصَيَّرُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا وَلَيْلَةً وَاحِدَةً ، كُلَّمَا مَضَتِ اسْتَأْنَفُوا النِّيَّةَ وَطَلَبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِيَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ ، فَكُلَّمَا مَضَى عَنْهُمْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ رَاقَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى جَمِيلِ الطَّاعَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ غُنْمًا , وَذَكَرُوا الْيَوْمَ الْمَاضِيَ فَسُّرُوا بِهِ , وَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لانْقِضَاءِ الأَجَلِ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ فَأَطْرَحُوا شُغْلَ الْقَلْبِ بِانْقِضَاءِ تَذَكُّرِ غَدٍ ، وَأَعْمَلُوا أَبْدَانَهُمْ وَجَوَارِحَهُمْ وَفَرَّغُوا لَهُ قُلُوبَهُمْ فَقَصُرَتْ عِنْدَهُمُ الآمَالُ وَقَرُبَتْ مِنْهُمُ الآجَالُ وَتَبَاعَدَتْ أَسْبَابُ وَسَاوِسِ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِمٍ وَعَظُمَ شُغْلُ الآخِرَةِ فِي صُدُورِهِمْ ، وَنَظَرُوا إِلَى الآخِرَةِ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ وَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَعْمَالٍ زَاكِيَةٍ ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُمُ السِّيرَةُ حَتَّى وَجَدُوا حَلاوَةَ الطَّاعَةِ فِي الدُّنْيَا حِينَ سَاعَدَتْهُمُ الزِّيَادَةُ فِي التَّقْوَى فَقَرَّتْ بِالْخَوْفِ أَعْيُنَهُمْ ، وَتَنَعَّمُوا بِالْحُزْنِ فِي عِبَادَتِهِمْ حَتَّى نَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ وَيَبِسَتْ عَلَى عِظَامِهِمْ جُلُودُهُمْ ، وَقَلَّ مَعَ الْمَخْلُوقِينَ كَلامُهُمْ ، وَتَلَذَّذُوا بِمُنَاجَاةِ خَالِقِهِمْ ، فَقُلُوبُهُمْ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ ، وَذِكْرُهُمْ بَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مُقْبِلَةٌ مُدْبِرَةٌ ، أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ عَارِيَةٌ فَعَمُوا عَنِ الدُّنْيَا وَصَمُّوا عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا وَمَا فِيهَا ، وَضَحَ لَهُمْ أَمْرُ الآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا ، فَتَخَلَّصَ إِلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ طَرِيقِ الاجْتِهَادِ لِتَذِلَّ لَهُمُ الأَنْفُسُ وَتَخْضَعَ لَهُمُ الْجَوَارِحُ ، فَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الصَّلاةِ لِدَوَامِ الْخُشُوعِ عَلَيْهِمْ ، وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الصَّوْمِ لِهُدُوِّ الْجَوَارِحِ عَنْهُمْ ، وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَطَلَبِ الْفَوْزِ وَذَلِكَ مِنْ رِيَاضَةِ الأَنْفُسِ حَتَّى أَفْضَوْا بِالأَنْفُسِ إِلَى الْجُوعِ وَنُحُولِ الْجِسْمِ " .