حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُفَسِّرُ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشِّمْشَاطِيُّ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَامِرٍ : " كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا أَنَا بِغُلامٍ أَسْوَدَ قَدْ جَاءَنِي بِرُقْعَةٍ ، فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَتَّعَكَ اللَّهُ بِمُسَامَرَةِ الْفِكْرَةِ ، وَنَعَّمَكَ بِمُؤَانَسَةِ الْعَبْرَةِ ، وَأَفْرَدَكَ بِحُبِّ الْخَلْوَةِ ، أَنَا رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِكَ بَلَغَنِي قُدُومُكَ الْمَدِينَةَ فَسُرِرْتُ بِذَلِكَ فَأَحْبَبْتُ زِيَارَتَكَ فَحُجِبْتُ عَنْ ذَلِكَ فَالْتَمَسْتُ مَخْرَجَ الْعُذْرِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، فَوَجَدْتُ اللَّهَ قَدْ مَنَحَنِي ثَلاثَ خِصَالٍ : أَذْهَبَ عَنِّي حَرَجَ أَهْلِهَا ، وَبِي مِنَ الشَّوْقِ إِلَى مُجَالَسَتِكَ ، وَالاسْتِمَاعِ لِمُحَادَثَتِكَ مَا لَوْ كَانَ فَوْقِي لأَظَلَّنِي ، وَلَوْ كَانَ تَحْتِي لأَقَلَّنِي ، فَأَسْأَلُكَ إِلا أَلْحَفْتَنِي جَنَاحَ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيَّ بِزِيَارَتِكَ ، وَالسَّلامُ ، قَالَ أَبُو عَامِرٍ : فَقُمْتُ مَعَ الْغُلامِ حَتَّى أَتَى بِي مَنْزِلا رَحْبًا خَرِبًا ، فَقَالَ لِي : قِفْ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ ، فَوَقَفْتُ حَتَّى خَرَجَ ، فَقَالَ لِي : لُجْ ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِبَيْتٍ لَهُ بَابٌ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ ، فَإِذَا أَنَا بِكَهْلٍ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ تَخَالُهُ مِنَ الْوَرَعِ مَكْرُوبًا ، وَمِنَ الْخَشْيَةِ مَحْزُونًا ، قَدْ ظَهَرَتْ فِي وَجْهِهِ أَحْزَانُهُ ، وَقَدْ قَرِحَتْ مِنَ الْبُكَاءِ عَيْنَاهُ وَمَرِضَتْ أَجْفَانُهُ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ تَخَلْخَلَ فَلَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ ، فَإِذَا هُوَ أَعْرَجُ أَعْمَى مِسْقَامٌ ، فَقَالَ لِي : مَتَّعَ اللَّهُ بِالأَحْزَانِ لُبَّكَ ، وَغَسَلَ مِنْ رَانِ الذُّنُوبِ قَلْبَكَ ، لَمْ تَزَلْ نَفْسِي إِلَيْكَ مُشْتَاقَةً ، وَقَلْبِي إِلَيْكَ تَوَّاقًا ، وَبِي جُرْحٌ قَدْ أَعْيَا النَّاسَ دَوَاؤُهُ ، وَالْمُتَطَبِّبِينَ شِفَاؤُهُ فَلاقِ لَهُ أَجْوَدَ التِّرْيَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الأَمْرُ مُرَّ الْمَذَاقِ ، فَإِنِّي مِمَّنْ أَصْبِرُ عَلَى مَضَضِ الدَّوَاءِ مَخَافَةَ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ عَظِيمِ الْبَلاءِ ، قَالَ : فَسَمِعْتُ كَلامًا حَسَنًا ، وَرَأَيْتُ مَنْظَرًا أَفْظَعَنِي فَأَطْرَقْتُ طَوِيلا ثُمَّ تَأَتَّى مِنْ كَلامِي مَا تَأَتَّى ، فَقُلْتُ : يَا شَيْخُ ، ارْمِ بِبَصَرِ قَلْبِكَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ فَتَمَثَّلْ بِحَقَيقَةِ إِيمَانِكَ جَنَّةَ الْمَأْوَى ، فَسَتَرَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ لِلأَوْلِيَاءِ ، ثُمَّ أَشْرِفْ بِقَلْبِكَ نَارًا تَتَلَظَّى ، فَسَتَرَى مَا أَعَدَّ فِيهَا لِلأَشْقِيَاءِ ، شَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَالدَّارَيْنِ شَتَّانَ ، أَلَيْسَ الْفَرِيقَانِ فِي الْمَوْتِ سَوَاءً ؟ قَالَ : فَأَنَّ أَنَّةً وَزَفَرَ زَفْرَةً وَالْتَوَى ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ وَقَعَ دَوَاؤُكَ عَلَى دَائِي ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عِنْدَكَ شِفَائِي ، زِدْنِي يَرْحَمُكُ اللَّهُ ، فَقُلْتُ : إِنَّهُ عَالِمٌ بِخَفَيَاتِكَ مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِكَ ، قَالَ : فَصَرَخَ صَرْخَةً خَرَّ مَيِّتًا ، فَإِذَا أَنا بِجَارِيَةٍ قَدْ رَفَعَتِ الْعَبَاءَةَ عَلَيْهَا جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ قَدْ أَقْرَعَ السُّجُودُ حَاجِبَيْهَا وَأَنْفَهَا ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيَّ قَالَتْ : أَحْسَنْتَ يَا هَادِيَ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ وَمُثِيرَ أَحْزَانِ الْمَحْزُونِينَ ، لا أَنْسَى لَكَ هَذَا الْمَوْقِفَ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا أَبِي مُبْتَلًى مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً : صَلَّى حَتَّى انْحَنَى ، وَصَامَ حَتَّى أُقْعِدَ ، وَبَكَى حَتَّى عَمِيَ ، وَكَانَ يَتَمَّنَاكَ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَيَقُولُ : سَمِعْتُ كَلامَ أَبِي عَامِرٍ مَرَّةً ، فَأَحْيَا اللَّهُ مَوَاتَ قَلْبِي ، فَإِنْ سَمِعْتُهُ ثَانِيًا قَتَلَنِي ، قَالَ أَبُو عَامِرٍ : فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ لَيَالٍ كَأَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا صَنَعَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ : غَفَرَ لِي ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : أَنْتَ شَرِيكِي فِي الَّذِي نِلْتُهُ مُسْتَأْهِلا ذَاكَ أَبَا عَامِرِ وَكُلُّ مَنْ أَيْقَظَ ذَا غَفَلَةٍ فَنِصْفُ مَا يُعْطَاهُ لِلآمِرِ مَنْ رَدَّ عَبْدًا آبِقًا مَرَّةً كَانَ كَالْمُجْتَهِدِ الصَّابِرِ " .