حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ السَّائِحُ ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّامِرِيُّ بِعَسْقَلانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ ، يَقُولُ : " بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي جِبَالِ لِكَامٍ ، إِذْ مَرَرْتُ عَلَى وَادٍ كَثِيرِ الأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ فَبَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ أَتَعَجَّبُ مِنْ حُسْنِ زَهْرَاتِهِ وَخُضْرَةِ الْعُشْبِ فِي جَنَبَاتِهِ ، وَمِنْ تَنَاغِي الأَطْيَارِ بِحَنِينٍ فِي أَفْنِيَتِهِ ، وَمِنْ خَرْخَرَةِ الْمَاءِ عَلَى رَضْرَاضِهِ ، وَمِنْ جَوَلانِ الْوَحْشِ فِي أَنْدِيَتِهِ ، وَمِنْ صَوْتِ عَوَاصِفِ الرِّيَاحِ الذَّارِيَةِ فِي أَغْصَانِ شَجَرَاتِهِ ، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا أَهْطلَ مَدَامِعِي وَهَيَّجَ لِمَا نَطَقَ بِهِ بَلابِلَ حُزْنِي ، قَالَ ذُو النُّونِ : فَاتَّبَعْتُ الصَّوْتَ حَتَّى أَوْقَعَنِي بِبَابِ مَغَارَةٍ فِي سَفْحِ ذَلِكَ الْوَادِي فَإِذَا الْكَلامُ يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ الْمَغَارَةِ فَاطَّلَعْتُ فِيهِ ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ وَالاجْتِهَادِ وَذَوِي الْعُزْلَةِ وَالانْفِرَادِ فَسَمِعْتُهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : سُبْحَانَ مَنْ أَمْرَحَ قُلُوبَ الْمُشْتَاقِينَ فِي زَهْرَةِ رِيَاضِ الطَّاعَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، سُبْحَانَ مَنْ أَوْصَلَ الْفَهْمَ إِلَى عُقُولِ ذَوِي الْبَصَائِرِ فَهِيَ لا تَعْتَمِدَ إِلا عَلَيْهِ ، سُبْحَانَ مَنْ أَوْرَدَ حِيَاضَ الْمَوَدَّةِ نُفُوسَ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ فَهِيَ لا تَحِنُّ إِلا إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَمْسَكَ ، قَالَ ذُو النُّونِ : فَقُلْتُ : السَّلامُ عَلَيْكَ يَا حَلِيفَ الأَحْزَانِ وَقَرِينَ الأَشْجَانِ ، وَيَا مَنْ أَلِفَ السَّكَنَ وَطُولَ الظَّعْنِ عَنْ مُفَارَقَةِ الصَّبْرِ ، وَالْعَزَاءِ ، قَالَ : فَأَجَابَنِي وَهُوَ يَقُولُ : وَعَلَيْكَ السَّلامُ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، مَا الَّذِي أَوْصَلَكَ إِلَى مَكَانِ مَنْ قَدْ أَفْرَدَهُ خَوْفُ الْمَسْأَلَةِ عَنِ الأَنَامِ وَمَنْ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِمَا فِيهِ مِنْ مُحَاسَبَتِهِ لِنَفْسِهِ عَنِ التَّصَنُّعِ فِي الْكَلامِ ؟ فَقُلْتُ : أَوْصَلَنِي إِلَيْكَ الآثَارُ وَالرَّغْبَةُ فِي الصَّفْحِ وَالاعْتِبَارِ ، فَقَالَ لِي : يَا فَتَى ، إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا قَدَحَ فِي قُلُوبِهِمْ زَنْدُ الشَّغَفِ بِنَارِ الْوَمَقِ فَأَرْوَاحُهُمْ بِشِدَّةِ الاشْتِيَاقِ إِلَى اللَّهِ تَسْرَحُ فِي الْمَلَكُوتِ وَبِأَبْصَارِ أَحْدَاقِ الْقُلُوبِ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا ذُخِرَ لَهُمْ فِي حُجُبِ الْجَبَرُوتِ ، قُلْتُ : يَرْحَمُكُ اللَّهُ صِفْهُمْ لِي ، فَقَالَ : أُولَئِكَ أَقْوَامٌ أَوَوْا إِلَى كَنَفِ رَحْمَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : سَيِّدِي بِهِمْ فَأَلْحِقْنِي ، وَلأَعْمَالِهِمْ فَوَفِّقْنِي ، فَقَدْ نَالُوا مَا أَرَادُوا ، لأَنَّكَ كُنْتَ لَهُمْ مُؤَدِّبًا وَلِعُقُولِهِمْ مُؤَيِّدًا ، فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَلا تُوصِينِي بِوَصِيَّةٍ أَحْفَظُهَا عَنْكَ ؟ قَالَ : أَحِبَّ اللَّهَ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ ، فَإِنَّ لَهُ يَوْمًا يَتَجَلَّى فِيهِ لأَوْلِيَائِهِ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : قَدْ كَانَ لِي دَمْعٌ فَأَفْنَيْتُهُ وَكَانَ لِي جَفْنٌ فَأَدْمَيْتُهُ وَكَانَ لِي جِسْمٌ فَأَبْلَيْتُهُ وَكَانَ لِي قَلْبٌ فَأَضْنَيْتُهُ وَكَانَ لِي يَا سَيِّدِي نَاظِرٌ أَرَى بِهِ الْحَقَّ فَأَعْمَيْتُهْ عَبْدُكَ أَضْحَى سَيِّدِي مُدْنِفًا لَوْ شِئْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ دَاوَيْتَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : مَدَامِعِي مِنْكَ قَرِيحَاتٌ بِالْخَوْفِ وَالْوَجْدِ نَضِيجَاتٌ أقَلْقَهَا زَرْعُ نَبَاتِ الْهَوَى أَجْفَانُهَا مَرَضَى صَحِيحَاتٌ طُوبَى لِمَنْ عَاشَ وَأَجْفَانُهُ مِنَ الْمَعَاصِي مُسْتَرِيحَاتٌ " .