سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ الْمَكِّيَّ وَأَمْلَى عَلَيَّ فِي جَوَابِ مَسْأَلَةٍ سُئِلَ عَنْهَا ، يُخَاطِبُ السَّائِلَ : " أَقِمْ عَلَى نَفْسِكَ الْمُوَازَنَةَ بِعَقْلِكَ فِي تَفَقُّدِ حَالِكَ وَمَقَامِكَ هَذَا ، إِنَّ كُلَّ مَا عَارَضَكَ مِنَ الأَشْغَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، أَعْنِي مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ ، أَزَالَكَ عَنْ مَقَامِكَ هَذَا بِانْصِرَافِ الْيَسِيرِ مِنْ عَقْلِكَ فَذَلِكَ كُلُّهُ عُذْرٌ ، فَاهْرَبْ وَافْزَعْ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الْخَوَاطِرِ ، وَسَوْرَةِ الْعَوَارِضِ ، وَحِيرَةِ الْهَوَى إِلَى مَوْلاكَ وَسِيِّدِكَ ، وَمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ ضُرُّكَ وَنَفْعُكَ الَّذِي خَلُصَتْ فِي نَفْسِكَ وَحْدَانِيَّتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَتَفْرِيدُ سُلْطَانِهِ ، وَتَفْرِيدُ فِعْلِ رُبُوبِيَّتِهِ ، إِذْ لا قَابِضَ ، وَلا بَاسِطَ ، وَلا نَافِعَ ، وَلا ضَارَّ ، وَلا مَعِينَ ، وَلا نَاصِرَ ، وَلا عَاصِمَ ، وَلا عَاضِدَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ ، وَهَذَا أَوَّلُ مَقَامٍ قَامَهُ أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ تَصْحِيحِ الْقُدْرَةِ فِي إِخْلاصِ تَفْرِيدِ أَفْعَالِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَقَامٍ قَامَهُ الْمُؤْمِنُونَ ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ قَامَهُ الْمُخْلِصُونَ ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ قَامَهُ الْمُتَوَكِّلُونَ فِي تَصْحِيحِ الْعِلْمِ الْمَعْقُودِ بِشَرْطِ التَّوَكُّلِ فِي الأَعْمَالِ قَبْلَ الأَعْمَالِ ، وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَا تَوَهَّمَهُ قَلْبُكَ أَوْ رَسَخَ فِي مَجَارِي فِكْرَتِكَ أَوْ خَطَرَ فِي مُعَارَضَاتِ قَلْبِكَ مِنْ حُسْنٍ أَوْ بَهَاءٍ ، أَوْ إِشْرَافٍ أَوْ ضِيَاءٍ أَوْ جَمَالٍ ، أَوْ شَبْحٍ مَاثِلٍ ، أَوْ شَخْصٍ مُتَمَثِّلٍ ، فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَلْ هُوَ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْمَلُ ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سورة الشورى آية 11 ؟ ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ سورة الإخلاص آية 4 ، أَيْ لا شَبَهَ وَلا نَظِيرَ وَلا مَسَاوِيَ وَلا مِثْلَ ، وَقَفَ عِنْدَ خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ مُسْلِمًا مُسْتَسْلِمًا مُذْعِنًا مُصَدِّقًا بِلا مُبَاحَثَةِ التَّنْفِيرِ ، وَلا مُفَاتَشَةِ التَّفْكِيرِ جَلَّ اللَّهُ وَعَلا الَّذِي لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلا يَبْلُغُ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ خَالِصُ التَّفْكِيرِ وَلا تُحْوِيهِ صِفَةُ التَّقْدِيرِ ، السَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ سُلْطَانًا وَقُدْرَةً ، وَالْبَاطِنُ لِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَخِبْرَةً خَلَقَ الأَشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ ، وَلا عِبْرَةٍ وَلا تَرَدُّدٍ وَلا فَكَرِهٍ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا أَقَامَ لِقُلُوبِ الْمُوقِنِينَ مَدًّا يُمْسِكُهُ التَّسْلِيمُ عَنِ التِّيهِ ، فِي بِحُورِ الْغُيوبِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ ذِي الْجَلالِ وَالْكِبْرِيَاءِ ، فَشَكَرَ لَهُمْ تَسْلِيمَهُمْ وَاعْتِرَافَهُمْ بِالْجَهْلِ بِمَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَسَمَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُوخًا وَرَبَّانِيَّةً ، أَوْ إِيمَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا سورة آل عمران آية 7 ، وَمَا خَبَّرَ عَنْ مَلائِكَتِهِ ، إِذْ قَالُوا : لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا سورة البقرة آية 32 ، عَجَزَتِ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أَنْ تَحُدَّ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ، أَوْ تُكَيِّفَ صِفَةَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَهُمْ خُشُوعٌ خُضُوعٌ خُنُوعٌ فِي حُجُرَاتِ سُرَادِقَاتِ الْعَرْشِ مَحْبُوسُونَ أَنْ يَتَأَمَّلُوا سَاطِعَ النُّورِ الأَوْهَجِ فَهُمْ يَضِجُّونَ حَوْلَ عَرْشِهِ بِالتَّقْدِيسِ ضَجِيجًا وَيَعِجِّوُنَ بِالتَّسْبِيحِ عَجِيجًا بَاهِتُونَ رَاهِبُونَ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ وَجِلُونَ لِمَا بَدَا لَهُمْ مِنْ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ ، وَلِمَا أَيْقَنُوا بِهِ وَسَلَّمُوا لَهُ مِنْ شُمُوخِ الرِّفْعَةِ ، فَكَيْفَ تُطْمِعُ يَا أَخِي نَفْسَكَ أَوْ تُطْلِقُ فِكْرَكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الاحْتِوَاءِ عَلَى صِفَةِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ ؟ وَقَانَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ اعْتِرَاضَ الشُّكُوكِ ، وَعَصَمَنَا وَإِيَّاكَ فِي كَنَفِ تَأْيِيدِهِ مِنَ التَّخَطِّي بِالأَفْهَامِ إِلَى اكْتِنَاهِ مَنْ لا تَهْجُمُ عَلَيْهِ الظُّنُونُ وَلا تَلْحَقُهُ فِي الْعَاجِلَةِ الْعُيونُ ، جَلَّ وَتَعَالَى عَنْ خَطَرَاتِ الْهَفَوَاتِ ، وَعَنْ ظُنُونِ الشُّبُهَاتِ ، عُلُوًّا كَبِيرًا ، فَبِهَذَا فَاعْرِفْ رَبَّكَ وَمَوْلاكَ وَمَنْ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فَيَكُونَ سِلاحَكَ ، وَعَظِّمْ عُدَّتَكَ وَمُجَاهَدَتَكَ وَجُنَّتَكَ مِنْ عَدُوِّكَ عِنْدَ مَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ فِي خَالِقِكَ ، فَهَذَا الَّذِي وَصَفْتُ لَكَ فَإِلَيْهِ فَالْتَجِئْ وَبِهِ فَاسْتَمْسِكْ ، ثُمَّ عُدْ إِلَيْهِ بَمَلَقِ اللَّوَذَانِ ، وَاسْتِكانةِ الْخُضُوعِ أَنْ يَعْصِمَكَ اللَّهُ وَيُثَبِّتَكَ فَهُوَ الْمُثَبِّتُ لِقُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ بِصِحَّةِ الْيَقِينِ مِنَ الزَّوَالِ ، كَمَا أَمْسَكَ أَرْضَهُ بِالْجِبَالِ مِنَ الزِّلْزَالِ ، وَالسَّلامُ " .