حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَصْقَلَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْحَنَّاطُ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَيْضِ ذُو النُّونِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِصْرِيُّ ، قَالَ : " إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَصَفْوَةً مِنْ خَلْقِهِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَخِيَرَةً " ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا الْفَيْضِ ، فَمَا عَلامَتُهُمْ ؟ قَالَ : " إِذَا خَلَعَ الْعَبْدُ الرَّاحَةَ ، وَأَعْطَى الْمَجْهُودَ فِي الطَّاعَةِ ، وَأَحَبَّ سُقُوطَ الْمَنْزِلَةِ " ، ثُمَّ قَالَ : مَنَعَ الْقُرَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مُقَلَ الْعُيُونِ بِلَيْلِهَا أَنْ تَهْجَعَا فَهِمُوا عَنِ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ كَلامَهُ فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعَا وَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ حَاضِرًا : يَا أَبَا الْفَيْضِ ، مَنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : " وَيْحَكَ ، هَؤُلاءِ قَوْمٌ جَعَلُوا الرُّكَبَ لِجِبَاهِهِمْ وِسَادًا ، وَالتُّرَابَ لِجُنُوبِهِمْ مِهَادًا ، هَؤُلاءِ قَوْمٌ خَالَطَ الْقُرْآنُ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فَعَزَلَهُمْ عَنِ الأَزْوَاجِ ، وَحَرَّكَهُمْ بِالإِدْلاجِ ، فَوَضَعُوهُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ فَانْفَرَجَتْ ، وَضَمُّوهُ إِلَى صُدُورِهِمْ فَانْشَرَحَتْ ، وَتَصَدَّعَتْ هِمَمُهُمْ بِهِ فَكَدَحَتْ ، فَجَعَلُوهُ لِظُلْمَتِهِمْ سِرَاجًا ، وَلِنَوْمِهِمْ مِهَادًا ، وَلِسَبِيلِهِمْ مِنْهَاجًا ، وَلِحُجَّتِهِمْ إِفْلاجًا ، يَفْرَحُ النَّاسُ وَيَحْزَنُونَ ، وَيَنَامُ النَّاسُ وَيَسْهَرُونَ ، وَيُفْطِرُ النَّاسُ وَيَصُومُونَ ، وَيَأْمَنُ النَّاسُ وَيَخَافُونَ ، فَهُمْ خَائِفُونَ ، حَذِرُونَ ، وَجِلُونَ ، مُشْفِقُونَ ، مُشَمِّرُونَ ، يُبَادِرُونَ مِنَ الْفَوْتِ ، وَيَسْتَعِدُّونَ لِلْمَوْتِ ، لَمْ يَتَصَغَّرْ جَسِيمُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِعِظَمِ مَا يَخَافُونَ مِنَ الْعَذَابِ ، وَخَطَرِ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الثَّوَابِ ، دَرَجُوا عَلَى شَرَائِعِ الْقُرْآنِ ، وَتَخَلَّصُوا بِخَالِصِ الْقُرْبَانِ ، وَاسْتَنَارُوا بِنُورِ الرَّحْمَنِ ، فَمَا لَبِثُوا أَنْ أَنْجَزَ لَهُمُ الْقُرْآنُ مَوْعُودَهُ ، وَأَوْفَى لَهُمْ عُهُودَهُمْ ، وَأَحَلَّهُمْ سُعُودَهُ ، وَأَجَارَهُمْ وَعِيدَهُ ، فَنَالُوا بِهِ الرَّغَائِبَ ، وَعَانَقُوا بِهِ الْكَوَاعِبَ ، وَأَمِنُوا بِهِ الْعَوَاطِبَ ، وَحَذِرُوا بِهِ الْعَوَاقِبَ ، لأَنَّهُمْ فَارَقُوا بَهْجَةَ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ قَالِيَةٍ ، وَنَظَرُوا إِلَى ثَوَابِ الآخِرَةِ بِعَيْنٍ رَاضِيَةٍ ، وَاشْتَرَوُا الْبَاقِيَةَ بِالْفَانِيَةِ ، فَنِعْمَ مَا اتَّجَرُوا ، رَبِحُوا الدَّارَيْنِ ، وَجَمَعُوا الْخَيْرَيْنِ ، وَاسْتَكْمَلُوا الْفَضْلَيْنِ ، بَلَغُوا أَفْضَلَ الْمَنَازِلَ ، بِصَبْرِ أَيَّامٍ قَلائِلَ ، قَطَعُوا الأَيَّامَ بِالْيَسِيرِ ، حَذَارِ يَوْمٍ قَمْطَرِيرٍ ، وَسَارَعُوا فِي الْمُهْلَةِ ، وَبَادَرُوا خَوْفَ حَوَادِثِ السَّاعَاتِ ، وَلَمْ يَرْكَبُوا أَيَّامَهُمْ بِاللَّهْوِ وَاللَّذَّاتِ ، بَلْ خَاضُوا الْغَمَرَاتِ لِلْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، أَوْهَنَ وَاللَّهِ قُوَّتَهُمُ التَّعَبُ ، وَغَيَّرَ أَلْوَانَهُمُ النَّصَبُ ، وَذَكَرُوا نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ، مُسَارِعِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ ، مُنْقِطِعِينَ عَنِ اللَّهَوَاتِ ، بَرِيئُونَ مِنَ الرِّيَبِ وَالْخَنَا ، فَهُمْ خُرْسٌ فُصَحَاءُ ، وَعُمْيٌ بُصَرَاءُ ، فَعَنْهُمْ تَقْصُرُ الصِّفَاتُ ، وَبِهِمْ تُدْفَعُ النَّقَمَاتُ ، وَعَلَيْهِمْ تَنْزِلُ الْبَرَكَاتُ ، فَهُمْ أَحْلَى النَّاسِ مِنْطَقًا وَمَذَاقًا ، وَأَوْفَى النَّاسِ عَهْدًا وَمِيثَاقًا ، سِرَاجُ الْعِبَادِ ، وَمَنَارُ الْبِلادِ ، مَصَابِيحُ الدُّجَى ، وَمَعَادِنُ الرَّحْمَةِ ، وَمَنَابِعُ الْحِكْمَةِ ، وَقَوَامُ الأُمَّةِ ، تَجَافَتْ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ، فَهُمْ أَقْبَلُ النَّاسِ لِلْمَعْذِرَةِ ، وَأَصْفَحَهُمْ لِلْمَغْفِرَةِ ، وَأَسْمَحَهُمْ بِالْعَطِيَّةِ ، فَنَظَرُوا إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْفُسٍ تَائِقَةٍ ، وَعُيُونٍ رَامِقَةٍ ، وَأَعْمَالٍ مُوَافِقَةٍ ، فَحَلُّوا عَنِ الدُّنْيَا مَطِيِّ رِحَالِهِمْ ، وَقَطَعُوا مِنْهَا حِبَالَ آمَالِهِمْ ، لَمْ يَدَعْ لَهُمْ خَوْفُ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ تَلِيدًا وَلا عَتِيدًا ، فَتَرَاهُمْ لَمْ يَشْتَهُوا مِنَ الأَمْوَالِ كُنُوزَهَا ، وَلا مِنَ الأَوْبَارِ خُزُوزَهَا ، وَلا مِنَ الْمَطَايَا عَزِيزَهَا ، وَلا مِنَ الْقُصُورِ مَشِيدَهَا ، بَلَى ، وَلَكِنَّهُمْ نَظَرُوا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَإِلْهَامِهِ إِيَّاهُمْ ، فَحَرَّكَهُمْ مَا عَرَفُوا بِصَبْرِ أَيَّامٍ قَلائِلَ ، فَضَمُّوا أَبْدَانَهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ ، وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ أَلْوَانِ الْمَطَاعِمِ ، وَهَرَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْمَآثِمِ ، فَسَلَكُوا مِنَ السَّبِيلِ رَشَادَهُ ، وَمَهَّدُوا لِلرَّشَادِ مِهَادَهُ ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ ، عَزُّوا عَنِ الرَّزَايَا وَغُصَصِ الْمَنَايَا ، هَابُوا الْمَوْتَ وَسَكَرَاتِهِ وَكُرْبَاتِهِ وَفَجَعَاتِهِ ، وَمِنَ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ ، وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ ، وَمِنِ ابْتِدَارِهِمَا وَانْتِهَارِهِمَا وَسُؤَالِهِمَا ، وَمِنَ الْمَقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ " ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نُعَيْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُمْ مَصَابِيحُ الدُّجَى ، وَيَنَابِيعُ الرُّشْدِ وَالْحِجَى ، خُصُّوا بِخَفِيِّ الاخْتِصَاصِ ، وَنُقُّوا مِنَ التَّصَنُّعِ بِالإِخْلاصِ .