ثنا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ ، قَالَ : ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ ، قَالَ : ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَرْبِ بْنِ جَبَلَةَ ، ثنا حَمْزَةُ بْنُ رُشَيْدٍ أَبُو عَلِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ الشَّامِيِّ ، قَالَ : كَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرٍ ، قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ مُدْرِكٍ ، قَالَ : ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ ، قَالَ : ثنا مَعْنُ بْنُ عِيسَى ، قَالَ : ثنا إِبْرَاهِيمُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ ، عَنِ الْحَسَنِ ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالسِّيَاقُ لأَبِي حُمَيْدٍ الشَّامِيِّ : " اعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَالنَّدَمَ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إِلَى تَرْكِهِ ، وَلَيْسَ مَا يَفْنَى وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَعْدِلُ مَا يَبْقَى ، وَإِنْ كَانَ طَلَبُهُ عَزِيزًا ، وَاحْتِمَالُ الْمَئُونَةِ الْمُنْقَطِعَةِ الَّتِي تَعْقُبُ الرَّاحَةَ الطَّوِيلَةَ خَيْرٌ مِنْ تَعْجِيلِ رَاحَةٍ مُنْقَطِعَةٍ تَعْقُبُ مَئُونَةً بَاقِيَةً ، فَاحْذَرْ هَذِهِ الدَّارَ الصَّارِعَةَ الْخَادِعَةَ الْخَاتِلَةَ الَّتِي قَدْ تَزَيَّنَتْ بِخِدَاعِهَا ، وَغَرَّتْ بِغُرُورِهَا ، وَقَتَلَتْ أَهْلَهَا بِأَمَلِهَا ، وَتَشَوَّفَتْ لِخُطَّابِهَا ، فَأَصْبَحَتْ كَالْعَرُوسِ الْمَجْلُوَّةِ ، الْعُيونُ إِلَيْهَا نَاظِرَةٌ ، وَالنُّفُوسُ لَهَا عَاشِقَةٌ ، وَالْقُلُوبُ إِلَيْهَا وَالِهَةٌ وَلأَلْبَابِهَا دَامِغَةٌ ، وَهِيَ لأَزْوَاجِهَا كُلِّهُمْ قَاتِلَةٌ ، فَلا الْبَاقِي بِالْمَاضِي مُعْتَبِرٌ ، وَلا الآخِرُ بِمَا رَأَى مِنَ الأَوَّلِ مُزْدَجِرٌ ، وَلا اللَّبِيبُ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ مُنْتَفِعٌ ، وَلا الْعَارِفُ بِاللَّهِ وَالْمُصَدِّقُ لَهُ حِينَ أُخْبِرَ عَنْهَا مُدَّكِرٌ ، فَأَبَتِ الْقُلُوبُ لَهَا إِلا حُبًّا ، وَأَبَتِ النُّفُوسُ بِهَا إِلا ضِنًّا ، وَمَا هَذَا مِنَّا لَهَا إِلا عِشْقًا ، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئًا لَمْ يَعْقِلْ غَيْرَهُ ، وَمَاتَ فِي طَلَبِهِ أَوْ يَظْفَرُ بِهِ ، فَهُمَا عَاشِقَانِ طَالِبَانِ لَهَا ، فَعَاشِقٌ قَدْ ظَفَرَ بِهَا وَاغْتَرَّ وَطَغَى وَنَسِيَ بِهَا الْمَبْدَأَ وَالْمِيعَادَ ، فَشُغِلَ بِهَا لَبُّهُ وَذُهِلَ فِيهَا عَقْلُهُ حَتَّى زَلَّتْ عَنْهَا قَدَمُهُ ، وَجَاءَتْهُ أَسَرَّ مَا كَانَتْ لَهُ مَنِيَّتُهُ فَعَظُمَتْ نَدَامَتُهُ ، وَكَثُرَتْ حَسْرَتُهُ ، وَاشْتَدَّتْ كُرْبَتُهُ مَعَ مَا عَالَجَ مِنْ سَكْرَتِهِ ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ بِأَلَمِهِ ، وَحَسْرَةُ الْمَوْتِ بِغُصَّتِهِ ، غَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِ ، وَآخَرُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ مِنْهَا بِحَاجَتِهِ ، فَذَهَبَ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ ، لَمْ يُدْرِكْ منها مَا طَلَبَ وَلَمْ يُرِحْ نَفْسَهُ مِنَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ ، خَرَجَا جَمِيعًا بِغَيْرِ زَادٍ وَقَدِمَا عَلَى غَيْرِ مِهَادٍ ، فَاحْذَرْهَا الْحَذَرَ كُلَّهُ ، فَإِنَّهَا مِثْلُ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا وَسُمُّهَا يَقْتُلُ ، فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا ، وَضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا لِمَا عَانَيْتَ مِنْ فَجَائِعِهَا ، وَأَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا ، وَشَدِّدْ مَا اشْتَدَّ مِنْهَا لِرَخَاءِ مَا يُصِيبُكَ ، وَكُنْ أَسَرَّ مَا تَكُونُ فِيهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ لَهَا ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ لَهُ أَشْخَصَتْهُ عَنْهَا بِمَكْرُوهٍ ، وَكُلَّمَا ظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَثَنَى رِجْلا عَلَيْهِ انْقَلَبَتْ بِهِ ، فَالسَّارُّ فِيهَا غَارٌّ وَالنَّافِعُ فِيهَا غَدًا ضَارٌّ ، وُصِلَ الرَّخَاءُ فِيهَا بِالْبَلاءِ ، وَجُعِلَ الْبَقَاءُ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ ، سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحَزَنِ ، وَآخِرُ الْحَيَاةِ فِيهَا الضَّعْفُ وَالْوَهَنُ ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا نَظَرَ الزَّاهِدِ الْمُفَارِقِ ، وَلا تَنْظُرْ نَظَرَ الْعَاشِقِ الْوَامِقِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهَا تُزِيلُ الثَّاوِي السَّاكِنَ ، وَتَفْجَعُ الْمَغْرُورَ الآمِنَ ، لا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ ، وَلا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ فِيهَا فَيُنْتَظَرَ ، فَاحْذَرْهَا فَإِنَّ أَمَانِيهَا كَاذِبَةٌ ، وَإِنَّ آمَالَهَا بَاطِلَةٌ ، عَيْشُهَا نَكَدٌ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ ، وَأَنْتَ مِنْهَا عَلَى خَطَرٍ ، إِمَّا نِعْمَةٌ زَائِلَةٌ وَإِمَّا بَلِيَّةٌ نَازِلَةٌ ، وَإِمَّا مُصِيبَةٌ مُوجِعَةٌ ، وَإِمَّا مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ ، فَلَقَدْ كَدِرَتْ عَلَيْهِ الْمَعِيشَةُ إِنْ عَقَلَ ، وَهُوَ مِنَ النَّعْمَاءِ عَلَى خَطَرٍ وَمِنَ الْبَلْوَى عَلَى حَذَرٍ ، وَمِنَ الْمَنَايَا عَلَى يَقِينٍ ، فَلَوْ كَانَ الْخَالِقُ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ عَنْهَا بِخَبَرٍ ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهَا مَثَلا ، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِزُهْدٍ ، لَكَانَتِ الدَّارُ قَدْ أَيْقَظَتَ النَّائِمَ وَنَبَّهَتِ الْغَافِلَ ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا زَاجِرٌ وَفِيهَا وَاعِظٌ ؟ ! فَمَا لَهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْرٌ ، وَلا لَهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَزْنٌ مِنَ الصِّغَرِ ، وَلا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِقْدَارَ حَصَاةٍ مِنَ الْحَصَا ، وَلا مِقْدَارَ ثَرَاةٍ فِي جَمِيعِ الثَّرَى ، وَلا خَلَقَ خَلْقًا فِيمَا بُلِّغْتُ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا ، وَلا نَظَرَ إِلَيْهَا مُنْذُ خَلَقَهَا مَقْتًا لَهَا ، وَلَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَفَاتِيحِهَا وَخَزَائِنِهَا وَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَمَا مَنَعَهُ مِنَ الْقَبُولِ لَهَا ، وَلا يَنْقُصُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ ، إِلا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئًا فَأَبْغَضَهُ ، وَصَغَّرَ شَيْئًا فَصَغَّرَهُ ، وَوَضَعَ شَيْئًا فَوَضَعَهُ ، وَلَوْ قَبِلَهَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى حُبِّهِ إِيَّاهَا قَبُولَهَا ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحِبَّ مَا أَبْغَضَ خَالِقُهُ ، وَأَنْ يَرْفَعَ مَا وَضَعَ مَلِيكُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى صِغَرِ هَذِهِ الدَّارِ ، إِلا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَقَرَهَا أَنْ يَجْعَلَ خَيْرَهَا ثَوَابًا لِلْمُطِيعِينَ ، وَأَنْ يَجْعَلَ عُقُوبَتَهَا عَذَابًا لِلْعَاصِينَ ، فَأَخْرَجَ ثَوَابَ الطَّاعَةِ مِنْهَا وَأَخْرَجَ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ عَنْهَا ، وَقَدْ يَدْلُكُ عَلَى شَرِّ هَذِهِ الدَّارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَوَاهَا عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ اخْتِبَارًا ، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِمُ اعْتِبَارًا وَاغْتِرَارًا ، وَيَظُنُّ الْمَغْرُورُ بِهَا وَالْمَفْتُونُ عَلَيْهَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَكْرَمَهُ بِهَا وَنَسِيَ مَا صَنَعَهُ بِمُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوسَى الْمُخْتَارِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْكَلامِ لَهُ وَمُنَاجَاتِهِ ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ ، وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَرُئِيَ خُضْرَةُ الْبَقْلِ مِنْ صِفَاقِ بَطْنِهِ مَنْ هُزَالِهِ ، مَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ أَوَى إِلَى الظِّلِّ إِلا طَعَامًا يَأْكُلُهُ مِنْ جُوعِهِ ، وَلَقَدْ جَاءَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَا مُوسَى إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلا فَقُلْ مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى قَدْ أَقْبَلَ فَقُلْ ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ ، وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتَهُ بِصَاحِبِ الرُّوحِ وَالْكَلِمَةِ فَفِي أَمْرِهِ عَجِيبَةٌ ، كَانَ يَقُولُ : أُدْمِي الْجُوعُ ، وَشِعَارِي الْخَوْفُ ، وَلِبَاسِي الصُّوفُ ، وَدَابَّتِي رِجْلَيَّ ، وَسِرَاجِي بِاللَّيْلِ الْقَمَرُ ، وَصِلايَتِي فِي الشِّتَاءِ الشَّمْسُ ، وَفَاكِهَتِي وَرَيْحَانِي مَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ للسِّبَاعِ وَالأَنْعَامِ ، أَبِيتُ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْنَى مِنِّي ، وَلَوْ شِئْتَ رَبَّعْتَ بِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ ، فَلَيْسَ دُونَهُمْ فِي الْعَجَبِ ، يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ فِي خَاصَّتِهِ وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُشْكَارَ وَالنَّاسَ الدَّرْمَكَ فَإِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ لَبِسَ الْمُسُوحَ وَغَلَّ الْيَدَ إِلَى الْعُنُقِ وَبَاتَ بَاكِيًا حَتَّى يُصْبِحَ ، يَأْكُلُ الْخَشِنَ مِنَ الطَّعَامِ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ مِنَ الثِّيَابِ ، كُلُّ هَذَا يُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَيُصَغِّرُونَ مَا صَغَّرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَزْهَدُونَ فِيمَا زَهَّدَ ، ثُمَّ اقْتَصَّ الصَّالِحُونَ بَعْدُ مِنْهَاجَهُمْ ، وَأَخَذُوا بِآثَارِهِمْ وَأَلْزَمُوا الكَدَّ وَالْعِبَرَ ، وَأَلْطَفُوا التَّفَكُّرَ ، وَصَبَرُوا فِي مُدَّةِ الأَجَلِ الْقَصِيرِ عَنْ مَتَاعِ الْغُرُورِ ، الَّذِي إِلَى الْفِنَاءِ يَصِيرُ ، وَنَظَرُوا إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى أَوَّلِهَا ، وَنَظَرُوا إِلَى عَاقِبَةِ مَرَارَتِهَا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى عَاجِلَةِ حَلاوَتِهَا ، ثُمَّ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ الصَّبْرَ وَأَنْزَلُوهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لا يَحِلُّ الشِّبَعُ مِنْهَا إِلا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهَا ، فَأَكَلُوا مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يَرُدُّ النَّفْسَ وَيَقِي الرُّوحَ وَيُسَكِّنُ الْقَرَمَ ، وَجَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ الْجِيفَةِ الَّتِي اشْتَدَّ نَتْنُ رِيحِهَا ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا أَمْسَكَ عَلَى أَنْفِهِ مِنْهَا ، فَهُمْ يُصِيبُونَ مِنْهَا لِحَالِ الضُّرِّ وَلا يَنْتَهُونَ مِنْهَا إِلَى الشِّبَعِ مِنَ النَّتْنِ ، فَغَرَبَتْ عَنْهُمْ وَكَانَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنَ الآكِلِ مِنْهَا شِبَعًا وَالْمُتَلَذِّذَ بِهَا أَشَرًا ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ : أَمَا تَرَى هَؤُلاءِ لا يَخَافُونَ مِنَ الأَكْلِ ، أَمَا يَجِدُونَ رِيحَ النَّتْنِ ؟ وَهِيَ وَاللَّهِ يَا أَخِي فِي الْعَاقِبَةِ وَالآجِلَةِ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ الْمَرْصُوفَةِ ، غَيْرَ أَنَّ أَقْوَامًا اسْتَعْجَلُوا الصَّبْرَ فَلا يَجِدُونَ رِيحَ النَّتْنِ ، وَالَّذِي نَشَأَ فِي رِيحِ الإِهَابِ النَّتْنِ لا يَجِدُ نَتْنَهُ ، وَلا يَجِدُ مِنْ رِيحِهِ مَا يُؤْذِي الْمَارَّةَ وَالْجَالِسَ عِنْدَهُ ، وَقَدْ يَكْفِي الْعَاقِلَ مِنْهُمْ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ عَنْهَا وَتَرَكَ مَالا كَثِيرًا سَرَّهُ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا فَقِيرًا ، أَوْ شَرِيفًا أَنَّهُ كَانَ فِيهَا وَضِيعًا ، أَوْ كَانَ فِيهَا مُعَافًى سَرَّهُ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مُبْتَلًى ، أَوْ كَانَ مُسَلْطَنًا سَرَّهُ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا سُوقَةً ، وَإِنْ فَارَقْتَهَا سَرَّكَ أَنَّكَ كُنْتَ أَوْضَعَ أَهْلِهَا ضَيْعَةً ، وَأَشَدَّهُمْ فِيهَا فَاقَةً ، أَلَيْسَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ عَلَى خِزْيِهَا لِمَنْ يَعْقِلُ أَمَرَهَا ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مَنْ أَرَادَ مِنْهَا شَيْئًا وَجَدَهُ إِلَى جَنْبِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَلا نَصَبٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا لَزِمَتْهُ حُقُوقُ اللَّهِ فِيهِ وَسَأَلَهُ عَنْهُ وَوَقَفَهُ عَلَى حِسَابِهِ ، لَكَانَ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لا يَأْخُذَ مِنْهَا إِلا قَدْرَ قُوتِهِ وَمَا يَكْفِي حَذَرَ السُّؤَالِ وَكَرَاهِيَةً لِشِدَّةِ الْحِسَابِ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيهَا ثَلاثَةُ أَيَّامٍ : يَوْمٌ مَضَى لا تَرْجُوهُ ، وَيَوْمٌ أَنْتَ فِيهِ يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَنِمَهُ ، وَيَوْمٌ يَأْتِي لا تَدْرِي أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ أَمْ لا ؟ وَلا تَدْرِي لَعَلَّكَ تَمُوتُ قَبْلَهُ ، فَأَمَّا أَمْسُ فحكيمٌ مُؤَدِّبٌ ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فصديقٌ مُوَدِّعٌ ، غَيْرَ أَنَّ أَمْسَ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَجَعَكَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ أَبْقَى فِي يَدَيْكَ حِكْمَتَهُ ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَضَعْتَهُ فَقَدْ جَاءَكَ خَلَفٌ مِنْهُ ، وَقَدْ كَانَ عَنْكَ طَوِيلَ الْغَيْبَةِ وَهُوَ الآنَ عَنْكَ سَرِيعُ الرِّحْلَةِ ، وَغَدَا أَيْضًا فِي يَدَيْكَ مِنْهُ أَمَلُهُ ، فَخُذِ الثِّقَةَ بِالْعَمَلِ وَاتْرُكِ الْغُرُورَ بِالأَمَلِ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى الْيَوْمِ هَمَّ غَدٍ أَوْ هَمَّ مَا بَعْدَهُ زِدْتَ فِي حُزْنِكَ وَتَعَبِكَ وَأَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ فِي يَوْمِكَ مَا يَكْفِيكَ أَيَّامَكَ ، هَيْهَاتَ كَثُرَ الشُّغُلُ وَزَادَ الْحُزْنُ وَعَظُمَ التَّعَبُ وَأَضَاعَ الْعَبْدُ الْعَمَلَ بِالأَمَلِ ، وَلَوْ أَنَّ الأَمَلَ فِي غَدِكَ خَرَجَ مِنْ قَلْبِكَ أَحْسَنْتَ الْيَوْمَ فِي عَمَلِكَ وَاقْتَصَرْتَ لَهُمْ يَوْمَكَ ، غَيْرَ أَنَّ الأَمَلَ مِنْكَ فِي الْغَدِ دَعَاكَ إِلَى التَّفْرِيطِ ، وَدَعَاكَ إِلَى الْمَزِيدِ فِي الطَّلَبِ وَلَئِنْ شِئْتَ وَاقْتَصَرْتَ لأَصِفَنَّ لَكَ الدُّنْيَا سَاعَةٌ بَيْنَ سَاعَتَيْنِ ، سَاعَةٌ مَاضِيَةٌ وَسَاعَةٌ آتِيَةٌ ، وَسَاعَةٌ أَنْتَ فِيهَا ، فَأَمَّا الْمَاضِيَةُ وَالآتِيَةُ ، فَلَيْسَ تَجِدُ لِرَاحَتِهِمَا لَذَّةً وَلا لِبَلائِهِمَا أَلَمًا ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا سَاعَةٌ أَنْتَ فِيهَا فَخَدَعَتْكَ تِلْكَ السَّاعَةُ عَنِ الْجَنَّةِ وَصَيَّرَتْكَ إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّمَا الْيَوْمُ إِنْ عَقَلْتَ ضَيْفٌ نَزَلَ بِكَ وَهُوَ مُرْتَحِلٌ عَنْكَ ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ نُزُلَهُ وَقِرَاهُ شَهِدَ لَكَ وَأَثْنَى عَلَيْكَ بِذَلِكَ وَصَدَقَ فِيكَ ، وَإِنْ أَسَأْتَ ضِيَافَتَهُ وَلَمْ تُحْسِنْ قِرَاهُ جَالَ فِي عَيْنَيْكَ ، وَهُمَا يَوْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الأَخَوَيْنِ نَزَلَ بِكَ أَحَدُهُمَا فَأَسَأْتَ إِلَيْهِ وَلَمْ تُحْسِنْ قِرَاهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، فَجَاءَكَ الآخَرُ بَعْدَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ بَعْدَ أَخِي فَإِنَّ إِحْسَانَكَ إِلَيَّ يَمْحُو إِسَاءَتَكَ إِلَيْهِ ، وَيَغْفِرُ لَكَ مَا صَنَعْتَ ، فَدُونَكَ إِذْ نَزَلَتُ بِكَ وَجِئْتُكَ بَعْدَ أَخِي الْمُرْتَحِلِ عَنْكَ ، فَقَدْ ظَفَرْتَ بِخَلَفٍ مِنْهُ إِنْ عَقَلْتَ فَدَارِكْ مَا قَدْ أَضَعْتَ ، وَإِنْ أَلْحَقْتَ الآخِرَ بِالأَوَّلِ فَمَا أَخْلَقَكَ أَنْ تَهْلَكَ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْكَ ! إِنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنَ الْعُمُرِ لا ثَمَنَ لَهُ وَلا عِدْلَ ، فَلَوْ جَمَعْتَ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَا عَدَلَتْ يَوْمًا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ صَاحِبِهِ ، فَلا تَبِعِ الْيَوْمَ وَتَعْدِلُهُ مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ ثَمَنِهِ ، وَلا يَكُونَنَّ الْمَقْبُورُ أَعْظَمَ تَعْظِيمًا لِمَا فِي يَدَيْكَ مِنْكَ وَهُوَ لَكَ ، فَلَعَمْرِي لَوْ أَنَّ مَدْفُونًا فِي قَبْرِهِ قِيلَ لَهُ : هَذِهِ الدُّنْيَا أَوَّلُهَا إِلَى آخِرِهَا تَجْعَلُهَا لِوَلَدِكَ مِنْ بَعْدِكَ يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا مِنْ وَرَائِكَ ، فَقَدْ كُنْتَ وَلَيْسَ لَكَ هَمٌّ غَيْرُهُمْ ، أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ يَوْمٌ تُتْرَكُ فِيهِ تَعْمَلُ لِنَفْسِكَ لا اخْتِيَارَ ذَلِكَ ، وَمَا كَانَ لَيَجْمَعَ الْيَوْمِ شَيْئًا إِلا اخْتَارَ الْيَوْمَ عَلَيْهِ رَغْبَةً فِيهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ ، بَلْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى سَاعَةٍ خُيِّرَهَا وَمَا بَيْنَ أَضْعَافِ مَا وَصَفْتُ لَكَ وَأَضْعَافِهِ يَكُونُ لِسِوَاهُ ، إِلا اخْتَارَ السَّاعَةَ لِنَفْسِهِ عَلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ يَكُونُ لِغَيْرِهِ ، بَلْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا تُكْتَبُ لَهُ وَبَيْنَ مَا وَصَفْتُ لَكَ وَأَضْعَافِهِ لاخْتَارَ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ عَلَيْهِ ، فَانْتَقِدِ الْيَوْمَ لِنَفْسِكَ وَأَبْصِرِ السَّاعَةَ ، وَأَعْظِمِ الْكَلِمَةَ ، وَاحْذَرِ الْحَسْرَةَ عِنْدَ نُزُولِ السَّكْرَةِ ، وَلا تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ لِهَذَا الْكَلامِ حُجَّةٌ ، نَفَعَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَرَزَقَنَا وَإِيَّاكَ خَيْرَ الْعَوَاقِبِ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " .