أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ : وَسُئِلَ عَنِ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ وَعَنِ الْمُرَاقِبِ لربه ؟ فقال : " إِنَّ الْمُرَاقَبَةَ تَكُونُ عَلَى ثَلاثِ خِلالٍ : عَلَى قَدْرِ عَقْلِ الْعَاقِلِينَ ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ يَفْتَرِقُونَ فِي ذَلِكَ فَإِحْدَى الثَّلاثِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْخَلَّةُ الثَّانِيَةُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْخَلَّةُ الثَّالِثَةُ الْحُبُّ لِلَّهِ ، فَأَمَّا الْخَائِفُ فَمُرَاقِبٌ بِشِدَّةِ حَذَرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَلَبَةِ فَزَعٍ ، وَأَمَّا الْمُسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ فَمُرَاقِبٌ بِشِدَّةِ انِكْسَارٍ وَغَلَبَةِ إِخْبَاتٍ ، وَأَمَّا الْمُحِبُّ فَمُرَاقِبٌ بِشِدَّةِ سُرُورٍ وَغَلَبَةِ نَشَاطٍ وَسَخَاءِ نَفْسٍ مَعَ إِشْفَاقٍ لا يُفَارِقُهُ وَلَنْ تَكَادَ أَنْ تَخْلُوَ قُلُوبُ الْمُرَاقِبِينَ مِنْ ذِكْرِ اطِّلاعِ الرَّقِيبِ بِشِدَّةِ حَذَرٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ أَنْ يَرَاهُمْ غَافِلِينَ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ ، وَالْمُرَاقَبَةُ ثَلاثُ خِلالٍ فِي ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ : أَوَّلُهَا التَّثْبِيتُ بِالْحَذَرِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ ، وَالتَّرْكُ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مَخَافَةَ الْخَطَأِ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ وَالتَّرْكِ لِمَا نَهَى اللَّهُ مَخَافَةَ التَّفْرِيطِ ، فَإِذَا دَخَلَ فِي الْعَمَلِ فَالتَّكْمِيلُ لِلْعَمَلِ مَخَافَةَ التَّقْصِيرِ ، فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ الْعَمَلِ مَخَافَةَ الْخَطَأِ فَغَيْرُ مُرَاقِبٍ لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ إِذْ كَانَ لا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى غَيْرِ مَا أَحَبَّ وَأَمَرَ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يبَادَرْ وَيُسَارِعْ إِلَى عَمَلِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَمَا رَاقَبَ إِذَا بَطَّأَ عَنِ الْعَمَلِ ، لِمَحَبَّةِ مَنْ يُرَاقِبُهُ إِذْ يَرَاهُ مُتَثَبِّطًا عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي تَكْمِيلِ عَمَلِهِ فَضَعِيفٌ مُقَصِّرٌ فِي مُرَاقَبَةِ مَنْ يُرَاقِبُهُ إِذَا قَصَّرَ عَنْ إِحْكَامِ الْعَمَلِ لِمَنْ يَعْمَلُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحِبُّ تَكْمِيلَهُ وَإِحْكَامَهُ ، وَقَالَ : سَبْعُ خِلالٍ يَكْمُلُ لَهَا عَمَلُ الْمُرِيدِ وَحِكْمَتُهُ : حُضُورُ الْعَقْلِ ، وَنَفَاذُ الْفِطْنَةِ ، وَسَعَةُ الْعَمَلِ بِغَيْرِ غَلَطٍ ، وَقَهْرُ الْعَقْلِ لِلْهَوَى ، وَعِظَمُ الْهَمِّ كَيْفَ يُرْضِي الرَّبَّ تَعَالَى ، وَالتَّثَبُّتُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَشِدَّةُ الْحَذَرِ لِلآفَاتِ الَّتِي تَشُوبُ الطَّاعَاتِ ، وَأَقَلُّ الْمُرِيدِينَ غَفْلَةً أَدْوَمُهُمْ مُرَاقَبَةً مَعَ تَعْظِيمِ الرَّقِيبِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْمُرَاقَبَةِ بِإِجْلالِ الرَّقِيبِ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِالْفِطْنَةِ لِدَوَاعِي الْعَقْلِ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالتَّثْبِيتُ بِالنَّظَرِ بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنَ الآفَاتِ ، وَقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَكْمِيلِ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْحُظْوَةِ فِي عَيْنِ الْمَلِيكِ الْمُطَّلِعِ ، وَشِدَّةُ الْفَزَعِ مِمَّا يَكْرَهُ خَوْفَ الْمَقْتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قُوَّةِ الْخَوْفِ شِدَّةُ الإِشْفَاقِ مِمَّا مَضَى مِنَ السَّيِّئَاتِ أَنْ لا تُغْفَرَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الإِحْسَانِ أَنْ لا يُقْبَلَ ، وَدَوَامُ الْحَذَرِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَنْ لا يَسْلَمَ ، وَعِظَمُ الْهَمِّ مِنْ عَظِيمِ الرَّغْبَةِ ، وَعَظِيمُ الرَّغْبَةِ مِنْ كِبَرِ الْمَعْرِفَةِ بِعَظِيمِ قَدْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَإِلَيْهِ ، وَسُمَوُّ الْهِمَّةِ يُخَفِّفُ التَّعَبَ وَالنَّصَبَ وَيُهَوِّنُ الشَّدَائِدَ فِي طَلَبِ الرِّضْوَانِ ، وَيُسْتَقَلُّ مَعَهُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ بِعَظِيمِ مَا ارْتَفَعَ إِلَيْهِ الْهَمُّ ، وَالنَّشَاطُ بِالدُّءُوبِ دَائِمٌ ، وَالسُّرُورُ بِالْمُنَاجَاةِ هَائِجٌ ، وَالصَّبْرُ زِمَامُ النَّفْسِ عَنِ الْمَهَالِكِ وَإِمْسَاكٌ لَهَا عَلَى النَّجَاةِ ، فَالْيَقِينُ رَاحَةٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا ، وَكَاسِبٌ لِمَنَافِعِ الدِّينِ كُلِّهَا ، وَحُسْنُ الأَدَبِ زَيْنٌ لِلْعَالِمِ ، وَسَتْرٌ لِلْجَاهِلِ ، مَنْ قَصُرَ أَمَلُهُ حَذَرَ الْمَوْتَ ، وَمَنْ حَذَرَ الْمَوْتَ خَافَ الْفَوْتَ ، وَمَنْ خَافَ الْفَوْتَ قَطَعَ الشَّوْقَ ، وَمَنْ قَطَعَ الشَّوْقَ بَادَرَ قَبْلَ زَوَالِ إِمْكَانِ الظَّفَرِ فَاجْعَلِ التَّيَقُّظَ ، وَاعِظَكَ ، وَالتَّثَبُّتَ ، وَكِيلَكَ ، وَالْحَذَرَ مُنَبِّهَكَ ، وَالْمَعْرِفَةَ دَلِيلَكَ ، وَالْعِلْمَ قَائِدَكَ ، وَالصَّبْرَ زِمَامَكَ ، وَالْفَزَعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَوْنَكَ ، وَمَنْ لَمْ تُوسَعْهُ الدُّنْيَا غِنًى وَلا رِفْعَةَ أَهْلِهَا شَرَفًا وَلا الْفَقْرُ فِيهَا صِفَةً ، فَقَدِ ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ ، وَعَزَفَتْ عَنِ الدُّنْيَا نَفْسُهُ ، مَنْ كَانَتْ نِعْمَتُهُ السَّلامَةَ مِنَ الآثَامِ وَرَغِبَ إِلَى اللَّهِ فِي حَوَادِثِ فَوَائِدَ لَمُرِيدٌ نُقِلَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَمَنِ اشْتَدَّ تَفَقُّدُهُ مَا يَضُرَّهُ فِي دِينِهِ وَيَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ وَذَكَرَ اطِّلاعَ اللَّهِ إِلَيْهِ ، وَمَثُلَ عَظِيمَ هَوْلِ الْمَطْلَعِ وَأَشْفَقَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْخَيْرُ ، فَقَدْ صَدَقَ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ وَحَقَّقَ اسْتِعْمَالَ مَا عَرَّفَهُ رَبُّهُ ، وَمَنْ قَدَّمَ الْعَزْمَ لِلَّهِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَحَبَّتِهِ وَوَفَّى لِلَّهِ بَعَزْمِهِ وَجَانَبَ مَا يَعْتَرِضُ بِقَلْبِهِ مِنْ خَطَرَاتِ السُّوءِ وَنَوَازِعِ الْفِتَنِ فَقَدْ حَقَّقَ مَا عَلِمَ وَرَاقَبَ اللَّهَ فِي أَحْوَالِهِ ، كَهْفُ الْمُرِيدِ ، وَحِرْزُهُ التَّقْوَى ، وَالاسْتِعْدَادُ عَوْنُهُ ، وَجَنَّتُهُ الَّتِي يَدْفَعَ بِهَا آفَاتِ الْعَوَارِضِ ، وَصُوَرِ النَّوَازِلِ ، وَالْحَذَرُ يوَرِّثُهُ النَّجَاةَ وَالسَّلامَةَ ، وَالصَّبْرُ يوَرِّثُهُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ ، وَذِكْرُ كَثْرَةِ سَوَالِفِ الذُّنُوبِ يوَرِّثُهُ شِدَّةَ الْغَمِّ وَطُولَ الْحُزْنِ ، وَعِظَمُ مَعْرِفَتِهِ بِكَثْرَةِ آفَاتِ الْعَوَارِضِ فِي الطَّاعَاتِ تُوَرِّثُهُ شِدَّةَ الإِشْفَاقِ مِنْ رَدِّ الإِحْسَانِ " .