سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ الْمَكِّيَّ ، يَقُولُ فِي وَصْفِ سِيَاسَةِ النُّفُوسِ قَالَ : " يَبْتَدِئُ بَعْدَ الإِجَابَةِ بِتَوْفِيقِ النُّفُوسِ لِمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ وَمَعْصِيَةَ الْجَبَّارِ فَأَلْزَمَهَا التَّوْبَةَ وَالتَنَصُّلَ وَالاعْتِذَارَ وَتَكْرِيرَ الاسْتِغْفَارِ ، وَالاجْتِهَادَ فِي حَلِّ الإِصْرَارِ بِاللَّجَأَ ، وَالاسْتِئْجَارِ ، وَالاعْتِصَامِ بِمَلِيكِهِمُ الْجَبَّارِ فَوَافَقُوهَا مُوَافَقَةً عَلَى مَوَازَنَةٍ وَعَاتَبُوهَا مُعَاتَبَةً عَلَى مُحَاضَرَةٍ وَوَبَّخُوهَا بِمَا فَرَطَ مِنْهَا مِنَ الْجَهْلِ ، وَالتَّضْيِيعِ ، وَالشُّرُورِ ، وَالتَّمَادِي وَالتَّمَرُّدِ فِي رُكُوبِ الْمَعَاصِي فَوَبَّخُوهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَعَاتَبُوهَا مُعَاتَبَةَ مَنْ قَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ ، وَقَرَّرُوهَا تَقْرِيرَ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ وَجَرَّعُوهَا مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ وَشَدِيدِ الْعِقَابِ ثُمَّ أَقَامُوهَا مَقَامَ الْخِزْيِ فَأَبْدَلُوهَا بِحَالِ الرَّفَاهَاتِ الْقَشَفَ وَالتَّقَشُّفَ وَالضُّرَ وَالتَّخَفُّفَ ، فَأَبْدَلُوهَا بِالشِّبَعِ جُوعًا ، وَبِالنَّوْمِ سَهَرًا ، وَبِالرَّاحَةِ تَعَبًا ، وَبِالْقُعُودِ نَصَبًا ، وَبِطَيِّبِ الْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَ الْخَشِنَ ، وَبِلِينِ الْمَلابِسِ الْخَشِنَ الْجَافِي ، وَبِأَمْنِ الْوَطَنِ خَوْفَ الْبَيَاتِ ، ثُمَّ أَزْعَجُوهَا عَنْ تَوَطُّنِ مَا بِهِ أَلْزَمُوهَا فَمَنَعُوهَا اسْتِوَاءَ الأَوْقَاتِ فِي بَذْلِ الاجْتِهَادِ ، وَأَخَذُوهَا بِدَائِمِ الازْدِيَادِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَازَنَةِ ، وَأَقَامُوهَا مَقَامَ التَّصَفُّحِ ، وَالتَّفْتِيشِ ، وَالْمُحَاسَبَةِ ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى كُلِّ لَحْظَةٍ وَخَطْرَةٍ وَهَمَّةٍ وَلَفْظَةٍ وَفِكْرَةٍ وَأُمْنِيَةٍ وَشَهْوَةٍ وَإِرَادَةٍ وَمَحَبَّةٍ ، فَهَكَذَا أَبَدًا دَأْبُهُمْ وَفِي هَذِهِ أَبَدًا حَالُهُمْ عَلَى هَذِهِ السَّيَاسَةِ بِشَرْطِ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ وَانْتِصَابِ هَذِهِ الْمُكَابَدَةِ وَإِحَاطَةِ هَذِهِ الْمُرَاوَضَةِ ، وَمَعَ هَذَا فَالْهَرَبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا وَالاعْتِضَادُ بِاللَّهِ عَلَيْهَا وَالتَّأَوِّي إِلَى اللَّهِ مِنْهَا وَالاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، وَالاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ عَلَى كَيْدِهَا وَالصُّرَاخِ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ شُرُودِهَا ، وَاسْتَغْثِ بِالْمَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي هُوَ صَرِيخُ الأَخْيَارِ ، وَمَنْجَأُ الأَبْرَارِ ، وَمُلْتَجَأُ الْمُتَّقِينَ ، وَنَاصِرُ الصَّالِحِينَ ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا شَكَرَ لِوَلِيِّهِ عَظِيمَ مَا جَاهَدَ وَجَسِيمَ مَا كَابَدَ وَمَشَقَّةَ مَا احْتَمَلَ وَجَهْدَ مَا انْتَصَبَ تَوَلاهُ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْعِزِّ وَالتَّأْيِيدِ ، وَمَنْ نَصَرَهُ لَمْ يُخْذَلْ ، وَمَنْ أَعَزَّهُ لَمْ يُقْهَرْ ، وَمَنْ تَوَلاهُ لَمْ يُذَلَّ ، فَرَوَّحَهَا رَوْحَ الْيَقِينِ ، وَأَضَاءَ لَهَا عَلامَاتِ التَّصْدِيقِ مِنَ اللَّهِ بِالْقَبُولِ ، وَأَنَارَتْ لَهَا عَلامَاتُ التَّحْقِيقِ ، وَتَوَالَتْ عَلَيْهَا مُدَاوَمَةُ الْمَزِيدِ ، وَعَادَتْ عَلَيْهَا تِكْرَارُ التُّحَفِ وَالْبِرِّ وَالْكَرَامَاتِ ، وَعَطَفَتْ عَلَيْهَا عَوَاطِفُ الْفَضْلِ بِالرَّحْمَةِ وَالْبَذْلِ ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الْمُبْتَدِئُ عَبْدَهُ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ بَذْلٍ فِي قُرْبَةٍ ، أَوْ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي وَسِيلَةٍ ، أَوْ مِنْ مُنَافَسَةٍ فِي فَضِيلَةٍ ، أَوْ مِنْ مُسَارَعَةٍ إِلَى خِدْمَةٍ ، أَوْ مِنْ إِخْلاصٍ فِي نِيَّةٍ ، أَوْ مِنْ تَكَامُلٍ فِي رَغْبَةٍ ، أَوْ مِنْ تَحْقِيقٍ فِي مَحَبَّةٍ ، فَاللَّهُ الْمُبْتَدِئُ لَهَا بِذَلِكَ بِمَا بِهِ أَقَامَهَا وَبِمَا بِهِ إِلَيْهَا دَعَاهَا ، فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَةُ الْحَيَاةِ وَمَشَارِبِهَا وَانْبِجَاسِ أَحْوَالِهَا وَتَشَعُّبِ مَذَاقَاتِهَا بِكُلِّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ غَمٍ وَسُرُورٍ وَرَاحَةٍ وَجَهْدٍ وَرَفَاهَةٍ وَتَعَبٍ وَمُوَافَقَةٍ وَنَصَبٍ وَبُكَاءٍ وَحُزْنٍ وَخَوْفٍ وَكَمَدٍ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي دَعَا اللَّهُ إِلَيْهَا وَنَبَّهَ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهَا ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ سورة الأنفال آية 24 " .