قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ رَجُلا قَالَ لَهُ : كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ : " كدخدَائ كارخويش كن " , يَنْزِلُ كَمَا يَشَاءُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ ، ثنا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَدْلُ ، ثنا مَحْبُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاضِي ، ثنا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ حَيُّوَيْهِ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَتَكِيُّ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ . فَذَكَرَ حِكَايَةً قَالَ فِيهَا : فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ " كدخاي كارخويش كن " , يَنْزِلُ كَيْفَ يَشَاءُ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنَّمَا يُنْكِرُ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْحَدِيثِ مَنْ يَقِيسُ الأُمُورَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنَ النُّزُولِ الَّذِي هُوَ نَزْلَةٌ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ ، وَانْتِقَالٌ مِنْ فَوْقٍ إِلَى تَحْتٍ ، وَهَذَا صِفَةُ الأَجْسَامِ وَالأَشْبَاحِ ، فَأَمَّا نُزُولُ مَنْ لا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ صِفَاتُ الأَجْسَامِ , فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ مُتَوَهَّمَةٍ فِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ ، وَعَطْفِهِ عَلَيْهِمْ , وَاسْتِجَابَتِهِ دُعَائِهِمْ , وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، لا يَتَوَجَّهُ عَلَى صِفَاتِهِ كَيْفِيَّةٌ ، وَلا عَلَى أَفْعَالِهِ كِمِّيَّةٌ ، سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ : وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِظَاهِرِهِ ، وَأَنْ لا نَكْشِفَ عَنْ بَاطِنِهِ ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ , فَقَالَ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ سورة آل عمران آية 7 , فَالْمُحْكَمُ مِنْهُ يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ وَالْعَمَلُ ، وَالْمُتَشَابِهُ يَقَعُ بِهِ الإِيمَانُ وَالْعِلْمُ الظَّاهِرُ ، وَيُوكَلُ بَاطِنُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ سورة آل عمران آية 7 , وَإِنَّمَا حَظُّ الرَّاسِخِينَ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا . وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ سورة البقرة آية 210 , وَقَوْلِهِ : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا سورة الفجر آية 22 , وَالْقَوْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ هُوَ مَا قُلْنَاهُ ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ شُيُوخِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ يُرْجَعُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ ، فَحَادَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حِينَ رَوَى حَدِيثَ النُّزُولِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَقَالَ : إِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ ؟ قِيلَ لَهُ : يَنْزِلُ كَيْفَ يَشَاءُ . فَإِنْ قَالَ : هَلْ يَتَحَرَّكُ إِذَا نَزَلَ ؟ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ يَتَحَرَّكُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَحَرَّكْ . وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ عَظِيمٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى لا يُوصَفُ بِالْحَرَكَةِ ، لأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ يَتَعَاقَبَانِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَرَكَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالسُّكُونِ ، وَكِلاهُمَا مِنْ أَعْرَاضِ الْحَدَثِ ، وَأَوْصَافِ الْمَخْلُوقِينَ ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْهُمَا ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فَلَوْ جَرَى هَذَا الشَّيْخُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَلَمْ يُدْخِلْ نَفْسَهُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ , لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ بِهِ الْقَوْلُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْخَطَإِ الْفَاحِشِ . قَالَ : وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِكَيْ يُتَوَقَّى الْكَلامُ فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، فَإِنَّهُ لا يُثْمِرُ خَيْرًا وَلا يُفِيدُ رُشْدًا ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنَ الضَّلالِ ، وَالْقَوْلِ بِمَا لا يَجُوزُ مِنَ الْفَاسِدِ وَالْمُحَالِ . وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ : قَدْ يَكُونُ النُّزُولُ بِمَعْنَى إِقْبَالٍ عَلَى الشَّيْءِ بِالإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْهُبُوطُ وَالارْتِفَاعُ وَالْبُلُوغُ وَالْمَصِيرُ ، وَأَشْبَاهُ هَذَا الْكَلامِ ، وَذَكَرَ مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : وَلا يُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا انْتِقَالٌ يَعْنِي بِالذَّاتِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ بِالإِرَادَةِ وَالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ . قُلْتُ : وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كِفَايَةٌ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَعْنَاهُ الْقُتَيْبِيُّ فِي كَلامِهِ ، فَقَالَ : لا نُحَتِّمُ عَلَى النُّزُولِ مِنْهُ بِشَيْءٍ ، وَلَكِنَّا نُبَيِّنُ كَيْفَ هُوَ فِي اللُّغَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ . وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الأُسْتَاذِ أَبِي عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ عَقِيبَ حَدِيثِ النُّزُولِ : قَالَ الأُسْتَاذُ مَنْصُورٌ يَعْنِي الْحَمْشَاذِيَّ عَلَى إِثْرِ الْخَبَرِ : وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ : " يَنْزِلُ اللَّهُ " فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ , فَقَالَ : يَنْزِلُ بِلا كَيْفٍ . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : نُزُولُهُ إِقْبَالُهُ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْزِلُ نُزُولا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ بِلا كَيْفٍ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ مِثْلَ نُزُولِ الْخَلْقِ بِالتَّجَلِّي وَالتَّمَلِّي ، لأَنَّهُ جَلَّ جَلالُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مِثْلَ صِفَاتِ الْخَلْقِ ، كَمَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مِثْلَ ذَاتِ الْغِيَرِ ، فَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ عَلَى حَسْبِ مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِ , مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَكَيْفِيَّةٍ . ثُمَّ رَوَى الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقِيبَ حِكَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ حِينَ سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ نُزُولِهِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " كد خداي كارخويش كن " يَنْزِلُ كَيْفَ يَشَاءُ . وَقَدْ سَبَقَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْحِكَايَةُ بِإِسْنَادِهِ وَكَتَبْتُهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحافظ ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ : " حَدِيثُ النُّزُولِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ " , وَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يُصَدِّقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا سورة الفجر آية 22 , وَالْمَجِيءُ وَالنُّزُولُ صِفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، مِنْ طَرِيقِ الْحَرَكَةِ وَالانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِلا تَشْبِيهٍ ، جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِهِ وَالْمُشَبِّهَةُ بِهَا عُلُوًّا كَبِيرًا .
الأسم | الشهرة | الرتبة |