حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ، وَخَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ ، وَغَيْرُهُمْ , قَالُوا : نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ ، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلامَةَ الطَّحَاوِيُّ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ ، قَالَ : " كُنْتُ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ وَقَدْ تَخَلَّفَ فِي مَنْزِلِهِ ، فَبَعَثَ غُلامًا مِنْ غِلْمَانِهِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَعْرَابِيِّ صَاحِبِ الْغَرِيبِ يَسْأَلُهُ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ ، فَعَادَ إِلَيْهِ الْغُلامُ ، فَقَالَ : قَدْ سَأَلْتُهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ لِي : عِنْدِي قَوْمٌ مِنَ الأَعْرَابِ ، فَإِذَا قَضَيْتُ أَرَبِي مِنهُمْ أَتَيْتُ ، قَالَ الْغُلامُ : وَمَا رَأَيْتُ عِنْدَهُ أَحَدًا إِلا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ كُتُبًا يَنْظُرُ فِيهَا ، فَيَنْظُرُ فِي هَذَا مَرَّةً وَفِي هَذَا مَرَّةً ، ثُمَّ مَا شَعَرْنَا ، حَتَّى جَاءَ فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ، تَخَلَّفْتَ عَنَّا وَحَرَمْتَنَا الأُنْسَ بِكَ ، وَلَقَدْ قَالَ لِيَ الْغُلامُ أَنَّهُ مَا رَأَى عِنْدَكَ أَحَدًا ، وَقُلْتَ : أَنَا مَعَ قَوْمٍ مِنَ الأَعْرَابِ ، فَإِذَا قَضَيْتُ أَرَبِي مَعَهُمْ أَتَيْتُ " ، فَقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ : لَنَا جُلَسَاءُ مَا نَمَلُّ حَدِيثَهُمْ أَلِبَّاءُ مَأْمُونُونُ غَيْبًا وَمَشْهَدَا يُفِيدُونَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمَ مَا مَضَى وَعَقْلا وَتَأْدِيبًا وَرَأْيًا مُسَدَّدَا بِلا فِتْنَةٍ تُخْشَى وَلا سُوءِ عِشْرَةٍ وَلا يُتَّقَى مِنْهُمْ لِسَانًا وَلا يَدَا فَإِنْ قُلْتَ أَمْوَاتٌ فَلا أَنْتَ كَاذِبٌ وَإِنْ قُلْتَ أَحْيَاءٌ فَلَسْتَ مُفَنَّدَا . قِيلَ لأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى ثَعْلَبٍ : " تَوَحَّشْتَ مِنَ النَّاسِ جِدًّا ، فَلَوْ تَرَكْتَ لُزُومَ الْبَيْتِ بَعْضَ التَّرْكِ ، وَبَرَزْتَ لِلنَّاسِ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِكَ وَيَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ ، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : إِنْ صَحِبْنَا الْمُلُوكَ تَاهُوا عَلَيْنَا وَاسْتَخَفُّوا كِبْرًا بِحَقِّ الْجَلِيسِ أَوْ صَحِبْنَا التُّجَّارَ صِرْنَا إِلَى الْبُؤْسِ وَصِرْنَا إِلَى عِدَادِ الْفُلُوسِ فَلَزِمْنَا الْبُيُوتَ نَسْتَخْرِجُ الْعِلْمَ وَنَمْلأُ بِهِ بُطُونَ الطُّرُوسِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ فِي شِعْرٍ لَهُ : أَقْبَلْتُ أَهْرَبُ لا آلُو مُبَاعَدَةً فِي الأَرْضِ مِنْهُمْ فَلَمْ يُحَصِّنِي الْهَرَبُ لَمَّا رَأَيْتُ بَأَنِّي لَسْتُ مُعْجِزَهُمْ فَوْتًا وَلا هَرَبًا فَرَيْتُ أَحْتَجِبُ فَصِرْتُ فِي الْبَيْتِ مَسْرُورًا تُحَدِّثُنِي عَنْ عِلْمِ مَا غَابَ عَنِّي فِي الْوَرَى الْكُتُبُ فَرْدًا تُخْبِرُنِي الْمَوْتَى وَتَنْطِقُ لِي فَلَيْسَ لِي فِي أُنَاسٍ غَيْرِهِمْ إِرَبُ لِلَّهِ مِنْ جُلَسَاءٍ لا جَلِيسُهُمْ وَلا خَلِيطُهُمْ لِلسُّوءِ مُرْتَقِبُ لا بَادِرَاتِ الأَذى يَخْشَى رَفِيقُهُمُ وَلا يُلاقِيهِ مِنْهُمْ مَنْطِقٌ ذَرِبُ أَبْقَوْا لَنَا حِكَمًا تَبْقَى مَنَافِعُهَا آخِرَ اللَّيَالِي عَلَى الأَيَّامِ وَانْشَعَبُوا إِنْ شِئْتُ مِنْ مُحْكَمِ الآثَارِ تَرْفَعُهَا إِلَى النَّبِيِّ ثِقَاتٌ خِيرَةٌ نُجُبُ أَوْ شِئْتُ مِنْ عَرَبٍ عِلْمًا بِأَوَّلِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُنْبِئُنِي بِهَا الْعَرَبُ أَوْ شِئْتُ مِنْ سِيَرِ الأَمْلاكِ مِنْ عَجَمٍ تُنْبِي وَتُخْبِرُ كَيْفَ الرَّأْيُ وَالأَدَبُ ؟ حَتَّى كَأَنِّي قَدْ شَاهَدْتُ عَصْرَهُمُ وَقَدْ مَضَتْ دُونَهُمْ مِنْ دَهْرِنَا حِقَبُ مَا مَاتَ قَوْمٌ إِذَا أَبْقَوْا لَنَا أَدَبًا وَعِلْمَ دِينٍ وَلا بَانُوا وَلا ذَهَبُوا ذَكَرَ الْجَاحِظُ هَذِهِ الأَبْيَاتِ عَلَى نَسَقٍ غَيْرِ هَذَا ، مَعَ زِيَادَةٍ وَتَغْيِيرِ نَظْمِ بَعْضِ الأَبْيَاتِ وَهِيَ : أَقْبَلْتُ أَهْرُبُ لا آلُو مُبَاعَدَةً فِي الأَرْضِ مِنْهُمْ فَلَمْ يُحْصِنِّي الْهَرَبُ فَقَصَرَ أَوْسٌ فَمَا وَالَتْ حَنَادِقُهُ فَلا النَّوَاوِيسُ فَالْمَاخُورُ فَالْخِرَبُ فَأَيُّمَا مَوْئِلٍ مِنْهَا اعْتَصَمْتُ بِهِ فَمِنْ وَرَائِي حَثِيثًا مِنْهُمُ الطَّلَبُ لَمَّا رَأَيْتُ بِأَنِّي لَسْتُ مُعْجِزَهُمْ فَوْتًا وَلا هَرَبًا فَرَيْتُ أَحْتَجِبُ فَصِرْتُ فِي الْبَيْتِ مَسْتُورًا بِهِ جَدَلا جَارِي الْبَرَاءِ لا شَكْوَى وَلا شَغَبُ فَرْدًا تُحَدِّثُنِي الْمَوْتَى وَتَنْطِقُ لِي عَنْ عِلْمِ مَا غَابَ عَنِّي مِنْهُمُ الْكُتُبُ هُمْ مُؤْنِسُونَ وَآلافٌ عُنِيتُ بِهِمْ فَلَيْسَ لِي فِي أُنَاسٍ غَيْرِهِمْ إِرَبُ لِلَّهِ مِنْ جُلَسَاءٍ لا جَلِيسُهُمُ وَلا خَلِيطُهُمُ لِلسُّوءِ مُرْتَقِبُ لا بَادِرَاتِ الأَذَى يَخْشَى رَفِيقُهُمُ وَلا يُلاقِيهِ مِنْهُمْ مَنْطِقٌ ذَرِبُ أَبْقَوْا لَنَا حِكَمًا تَبْقَى مَنَافِعُهَا أُخْرَى اللَّيَالِي عَلَى الأَيَّامِ وَانْشَعَبُوا فَأَيُّمَا أَدَبٍ مِنْهُمْ مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ يَدِي كُتُبُ إِنْ شِئْتُ مِنْ مُحْكَمِ الآثَارِ يَرْفَعُهَا إِلَى النَّبِيِّ ثِقَاتٌ خِيَرٌ نُجُبُ أَوْ شِئْتُ مِنْ عَرَبٍ عِلْمًا بِأَوَّلِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُنَبِّئُنِي بِهَا الْعَرَبُ أَوْ شِئْتُ مِنْ سِيَرِ الأَمْلاكِ مِنْ عَجَمٍ تُنْبِي وَتُخْبِرُ كَيْفَ الرَّأْيُ وَالأَدَبُ حَتَّى كَأَنِّي قَدْ شَاهَدْتُ عَصْرَهُمُ وَقَدْ مَضَتْ دُونَهُمْ مِنْ دَهْرِهِمْ حِقَبُ يَا قَائِلا قَصَّرْتَ فِي الْعِلْمِ بِهَيْبَةٍ أَمْسَى إِلَى الْجَهْلِ فِيمَا قَالَ يَنْتَسِبُ إِنَّ الأَوَائِلَ قَدْ بَاتُوا بِعِلْمِهِمْ خِلافَ قَوْلِكَ مَا بَانُوا وَمَا ذَهَبُوا مَا مَاتَ مِثْلُ امْرِئٍ أَبْقَى لَنَا أَدَبًا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا مَاتَ يَكْتَسِبُ وَمِمَّا يُحْفَظُ قَدِيمًا : نِعْمَ الْمُحَدِّثُ وَالْجلِيسُ كِتَابٌ تَخْلُو بِهِ إِنْ مَلَّكَ الأَصْحَابُ لا مُفْشِيًا سِرًّا وَلا مُتَكَبِّرًا وَتُفَادُ مِنْهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابُ وَأَنْشَدَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَلَذُّ مَا طَلَبَ الْفَتَى بَعْدَ التُّقَى عِلْمٌ هُنَاكَ يَزِينُهُ طَلَبُهُ وَلِكُلِّ طَالِبِ لَذَّةٍ مُتَنَزِّهٍ وَأَلَذُّ نُزْهَةِ عَالِمٍ كُتُبُهِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَزِيدَهُ فِيهَا فَزِدْتُهُ بِحَضْرَتِهِ : يُسْلِي الْكِتَابُ هُمُومَ قَارِئِهِ وَيَبِينُ عَنْهُ إِذَا قَرَأَ نَصَبُهُ نِعْمَ الْجَلِيسُ إِذَا خَلَوْتَ بِهِ لا مَكْرُهُ يُخْشَى وَلا شَغَبُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ : الْعِلْمُ آنَسُ صَاحِبٍ أَخْلَوُ بِهِ فِي وَحْدَتِي فَإِذَا اهْتَمَمْتُ فَسَلْوَتِي وَإِذَا خَلَوْتُ فَلَذَّتِي وَيُرْوَى وَإِذَا نَشِطْتُ فَلَذَّتِي ، وَأَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الدِّمَشْقِيُّ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِغَيْرِهِ : لَمِحْبَرَةٌ تُجَالِسُنِي نَهَارِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أُنْسِ الصَّدِيقِ وَرِزْمَةُ كَاغِدٍ فِي الْبَيْتِ عِنْدِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَدْلِ الدَّقِيقِ وَلَطْمَةُ عَالِمٍ فِي الْخَدِّ مِنِّي أَلَذُّ إِلَيَّ مِنْ شُرْبِ الرَّحِيقِ وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاءِ : " مَا دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ قَطُّ وَلا مَرَرْتُ بِبَابِهِ فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ فِي دَفْتَرٍ وَجَلِيسُهُ فَارِغٌ إِلا حَكَمْتُ عَلَيْهِ ، وَاعْتَقَدْتُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ عَقْلا ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لا يُجَالِسُ النَّاسَ ، وَنَزَلَ الْمَقْبَرَةَ فَكَانَ لا يَكَادُ يُرَى إِلا وَفِي يَدِهِ دَفْتَرٌ ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " لَمْ أَرْ قَطُّ أَوْعَظَ مِنْ قَبْرٍ ، وَلا أَمْتَعَ مِنْ دَفْتَرٍ ، وَلا أَسْلَمَ مِنْ وَحْدَةٍ " . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤِيِّ ، إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَقَدْ غَبَرَتْ لِي أَرْبَعُونَ عَامًا ، مَا قُمْتُ وَلا نِمْتُ إِلا وَالْكِتَابُ عَلَى صَدْرِي " . وَأُنْشِدْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِدْرِيسَ الْوَزِيرِ الْجُرَيْرِيِّ ، فِي قَصِيدَةٍ لَهُ مُطَوَّلَةٍ : وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ أَرْفَعُ رُتْبَةً وَأَجَلُّ مُكْتَسَبٍ وَأَسْنَى مَفْخَرِ فَاسْلُكْ سَبِيلَ الْمُقْتَنِينَ لَهُ تَسُدْ إِنَّ السِّيَادَةِ تُقْتَنَى بِالدَّفْتَرِ وَالْعَالِمُ الْمَدْعُوُّ حَبْرًا إِنَّمَا سَمَّاهُ بِاسْمِ الْحَبْرِ حَمْلُ الْمِحْبَرِ وَبِضَمْرِ الأَقْلامِ يَبْلُغُ أَهْلُهَا مَا لَيْسَ يُبْلَغُ بِالْجِيَادِ الضُّمَّرِ وَقَدْ أَكْثَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ فِي جَمْعِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْمَنْظَومِ وَالْمَنْثُورِ ، فَرَأَيْتُ الاقْتِصَارَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْقَلِيلِ أَوْلَى مِنَ الإِكْثَارِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
الأسم | الشهرة | الرتبة |