أنبأنا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد الرافقي ، أَخْبَرَنَا عَلِي بْن مُحَمَّد بْن السري ، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الْحَسَن المقرئ ، قَالَ : أوصى بنان رجلًا ، فَقَالَ : " إِذَا دعيت وليمة إِن شاء اللَّه فإياك ، ثُمَّ إياك أَن تتأخر إِلَى آخر الوقت ، وتشاغل وتسترخي وتثاقل ، وتقول : الساعة ، وإلى ساعة ، وإيش فاتني ؟ وبعد مَا جاء أحد ، وَمَا لي أكون من السبق ؟ وَلَمْ أكون أنا أول النَّاس ؟ ومثل هَذَا وأشباهه ، فيخطئ حظك ، ويسيء اختيارك ، ويضيع يومكً ، وَهَذَا فعال الحمقى القليلي الحزم . وإذا دعاك صديق لَك فاستخر اللَّه ، وكن من السبق وأول من يوافي ، وأقبل وصيتي ، فإنك ترشيد وتبين الصلاح إِن شاء اللَّه ، اعلم أَنَّهُ لَيْسَ يجيء فِي أول الأوقات إلا جلة النَّاس وسراتهم : كاتب ، وبزاز ، وعطار ، وسراج ، وأنماطي ، ونحوهم ، فقعودك مَعَ مثل هَؤُلاءِ فائدة ، وأنت معهم آمن مطمئن مسرور ، تسمع كُل حَدِيث حسن وخبر ظريف ، وأنت ريح البدن ، واسع الموضع ، طيب المكان ، قاعد مَعَ هَؤُلاءِ عَلَى أول مائدة ، الزم هذه الطبقة لا يزايل سوادك بياضهم فتهلك ، وأنت إِن لَمْ تربح تخسر ، وقعودك عَلَى أول مائدة فِيهِ خصال كثيرة محمودة ، أعلم يا مغفل أنك تأكل رءوس القدور وكل شَيْء كثير ، والقدور ملأى ، والماء بارد ، والخباز نشيط ، ورب المنزل فرح مسرور ، وكل شَيْء من أمرك مستور ، موضعك واسع ، وأنت مَعَ قوم كأنهم الدنانير أحيى من الأبكار يعقلون إيش يأكلون ، لا تخفى عَلَيْهِم طيب الأطعمة ولذيذ الأشربة ، فالأكل مَعَ هَؤُلاءِ غنيمة وسلامة ، وتتهنأ بكل شَيْء تأكل وتشرب ، وإذا أسرعت فِي ذهابك فرجت عَن صاحب الوليمة بسرعتك ، وَلَمْ تقلق قلبه وقضيت واجب حقه ، وإن تأخرت ، أَوْ تكاسلت إِلَى آخر الوقت فَقَدْ عطبت وهلكت وضيعت وتوانيت ، أعلم أنك تصادف الطعام باردًا وَهُوَ فضلات القدور ، والرقاق بقايا عجين قَدِ استعملوا الجيد ، والماء سخنًا ، وصاحب الوليمة ضجرًا متبرمًا فيحمك فِي ذَلِكَ الوقت فِي الاحتراق ، واعلم يا أَخِي أَن آخر مائدة يضيق عَلَيْهِم الطعام ويقل ، لأن حكم المائدة عشرة ، فيقعد ثلاثون ، ولا يقدر الرجل أَن يأكل من اللون أَكْثَر من لقمة لقلته وكثرة الأيدي عَلَيْهِ ، فموضعك أضيق من جوفك ، فَإِذَا قَالَ لَهُمْ صاحب الوليمة : قوموا ، سارعوا إِلَى الخوان ، فانبسطوا فِي ميدان المضغ ، ورفعوا قناع الحشمة ، وألزقوا الأكتاف بالأكتاف كأنهم بنيان مرصوص ، يأكلون ميمنة وميسرة وقلبًا ، وتدور أيديهم عَلَى الخوان شرقيًا وغربيًا ، وتسمع للقوم فِي حلوقهم معمعة ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لا يقعد عَلَى آخر مائدة إلا ضعفى الجيران ومساكين المحلة والقوام ، فَإِن كَانَ لَهُمْ جداء وحملان فليس يقدم ، يَعْنِي : إليهم ، إلا شرها ، يقدم الجدي أضلاع بلا لحم فوقه جلد وحوله خس وهندبا ، كَأَنَّهُ كوخ ناطور قَدْ وقع خشبه وبقي القصب قائمًا ، فإيش يَكُون حال من يَكُون لَهُ أدنى مروءة مَعَ هَؤُلاءِ ؟ لا يأكل قليلًا ولا كثيرًا ، فيقوم من الخوان وفؤاده أخلى من فؤاد أم موسى ، جايع نايع مَا مَعَهُ من العرس إلا شم الطعام وتمشيش العظام ، وإنما شرحت لَك لتفهم . واعلم أني قَدْ نصحتك غاية النصيحة ، وبينت لَك مَا بَيْنَ سُفْيَان الثَّوْرِي فِي جامعه ، فأفهم تعلم ، وتعلم بأدب متعك اللَّه بسعة الصدر ، وطيب الأكل والصبر عَلَى المضغ ، إنها دعوة مغفول عَنْهَا " .