وَأَمَّا مَالِكٌ , فَإِنَّهُ كَانَ أَشَدَّ مِنْ هَذَا قَوْلا مِنْ هَؤُلاءِ , قَالَ : " إِذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ بِالْمَالِ عَلَى الْعَاشِرِ لِتِجَارَةٍ ، أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مِائَتَيْنِ , قَالَ : وَإِنِ ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ قَوْلَهُ ، وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ الْعُشْرِ , قَالَ : وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ مَرَّ بِفَاكِهَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ أَوْ لا يَبْقَى ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ , قَالَ : وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّمَا مَرَّ ، وَإِنْ مَرَّ بِمَالِهِ فِي السَّنَةِ مِرَارًا " , قَالَ : حَدَّثَنِي بِذَلِكَ كُلِّهِ , أَوْ بِبَعْضِهِ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ , وَكُلُّ هَذِهِ الأَقْوَالِ لَهَا وُجُوهٌ , فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ : لا يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَالُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالصَّدَقَةِ ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ عُمَرَ حِينَ سَمَّى مَا يَجِبُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الَّتِي تُدَارُ لِلتِّجَارَاتِ , إِنَّمَا قَالَ : يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَذَا ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَذَا ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَذَا , وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي أَدْنَى مَبْلَغِ الْمَالِ وَقْتًا , قَالُوا : ثُمَّ رَأَيْنَاهُ قَدْ ضَمَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ ، فَلِهَذَا حَمَلَنَا وَقْتَ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الزَّكَاةِ , إِذْ كَانَ لأَدْنَى الزَّكَاةِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَهُوَ الْمِائَتَانِ , فَأَخَذْنَا أَهْلَ الذِّمَّةِ بِهَا ، وَأَلْغَيْنَا مَا دُونَ ذَلِكَ , وَأَمَّا مَالِكٌ , وَأَهْلُ الْحِجَازِ , فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي تَرْكِ النَّظَرِ إِلَى الْمِائَتَيْنِ ، وَأَخْذِهِمْ مِمَّا دُونَهَا , قَالُوا : إِنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَ بِزَكَاةٍ , فَيُنْظَرُ فِيهِ إِلَى مَبْلَغِهَا وَإِلَى حَدِّهَا ، إِنَّمَا هُوَ فَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ ، أَلا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ , وَالْفَقِيرِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لأَدْنَى مَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ ، وَعَلَى ذَلِكَ صُولِحُوا ؟ , قَالُوا : فَكَذَلِكَ مَا مَرُّوا بِهِ مِنَ التِّجَارَاتِ ، يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا كَانَتْ ، قَلِيلا أَوْ كَثِيرًا , وَأَمَّا سُفْيَانُ فِي تَوْقِيتِهِ الْمِائَةَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهَا ، وَيُتْرَكَ مِمَّا دُونَهَا ، فَمَذْهَبُهُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْمُوَظَّفَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ هُوَ الضِّعْفُ مِمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ عَشَرَةٌ ، جَعَلَ فَرْعَ الْمَالِ عَلَى حَسَبِ أَصْلِهِ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي الْمِائَةِ خَمْسَةً ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِائَتَيْنِ عَشَرَةٌ , لِيُوَافِقَ الْحُكْمُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَأَسْقَطَ مَا دُونَ الْمِائَةِ ، كَمَا عَفَا لِلْمُسْلِمِينَ عَمَّا دُونَ الْمِائَتَيْنِ ، فَصَارَتِ الْمِائَةُ لِلذِّمِّيِّ كَالْمِائَتَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ سَوَاءً , فَهَذَا رَأْيُهُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَلَسْتُ أَدْرِي مَا وَقَّتَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ , غَيْرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ : إِذَا مَرَّ أَحَدُهُمْ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا الْعُشْرُ , قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَقَوْلُ سُفْيَانَ , هُوَ عِنْدِي أَعْدَلُ هَذِهِ الأَقْوَالِ ، وَأَشْبَهُهَا بِالَّذِي أَرَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، مَعَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ , قَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ إِلَى زُرَيْقِ بْنِ حَيَّانَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ , أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ : " مَنْ مَرَّ بِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَخُذْ مِمَّا يُدِيرُونَ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا ، فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ ، حَتَّى تَبْلُغَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ، فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ , فَلا تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا " , فَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ إِنَّمَا هِيَ مَعْدُولَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي الزَّكَاةِ , وَهُوَ عِنْدَنَا تَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , مَعَ تَفْسِيرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَلَا يُوجَدُ فِي هَذَا مُفَسِّرٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ , فَهَذَا مَا فِي تَوْقِيتِ أَدْنَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْحُقُوقُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِ , وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُحِيطُ بِمَالِهِ ، وَمَا كَانَ مِنَ اخْتِيَارِ سُفْيَانَ , وَأَهْلِ الْعِرَاقِ قَبُولَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ لا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَوْلِهِ ، وَالَّذِي كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مَالِكٍ , وَأَهْلِ الْحِجَازِ ذَلِكَ ، وَقَوْلِهِمْ : إِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ , فَإِنَّ الَّذِي أَخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَأَقُولُ : إِنْ كَانَ لَهُ شُهُودٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دَيْنِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَالِهِ سَبِيلٌ , لأَنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ قَدْ وَجَبَ لِرَبِّهِ عَلَيْهِ ، فَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْجِزْيَةِ , لأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ فِي عُنُقِهِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ يُحْصَى أَهْلُ هَذَا الْحَقِّ ، فَيُقْدَرُ عَلَى قَسْمِ مَالِ الذِّمِّيِّ بَيْنَهُمْ , وَبَيْنَ هَذَا الْغَرِيمِ بِالْحِصَصِ ، وَلا يُعْلَمُ كَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُ ، وَقَدْ عُلِمَ حَقُّ الْغَرِيمِ , فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ أَوْلَى بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ دَيْنُ هَذَا الذِّمِّيِّ إِلا بِقَوْلِهِ كَانَ مَرْدُودًا غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْهُ , لأَنَّهُ حَقٌّ قَدْ لَزِمَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَهُوَ يُرِيدُ إِبْطَالَهُ بِالدَّعْوَى ، وَلَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ فِي ذَلِكَ كَمَا يُؤْتَمَنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى زَكَاتِهِمْ فِي الصَّامِتِ ، إِنَّمَا هَذَا فَيْءٌ ، وَحُكْمُهُ غَيْرُ حُكْمِ الصَّدَقَةِ , وَأَمَّا اخْتِلافُهُمْ فِي مَمَرِّهِ عَلَى الْعَاشِرِ مِرَارًا فِي السَّنَةِ ، وَقَوْلُ سُفْيَانَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِيهِ : إِنَّهُ لا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ , إِلا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ : إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا ، إِذَا كَانَ اخْتِلافُهُ مِنْ مِصْرٍ إِلَى مِصْرٍ آخَرَ سِوَاهُ ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ فِي هَذَا عَنِ الإِمَامَيْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ كَفَتْنَا النَّظَرَ فِيهِ .
الأسم | الشهرة | الرتبة |