أَخْبَرَنَا أبو الفتح نصر الله بْن مُحَمَّد ، حدثنا نصر بْن إبراهيم المقدسي ، أخبرنا أبو الحسن علي بْن الحسن القرشي ، قراءة عليه ، حدثنا أبو بكر مُحَمَّد بْن علي بْن مُحَمَّد الغازي النيسابوري ، نا الأستاذ أبو سعيد عبد الملك بْن أبي عثمان الواعظ . أَخْبَرَنَا أبو عمر مُحَمَّد بْن سهل بْن هلال البستي ، بمكة ، حدثنا أبو الحسن مُحَمَّد بْن أبي نافع الخزاعي ، حدثنا أبو مُحَمَّد إسحاق بْن مُحَمَّد ، حدثنا أبو الوليد الأزرقي ، حدثني جدي ، عن سعيد بْن سنان ، عن عثمان بْن ساج ، عن مُحَمَّد بْن إسحاق ، قال : سار تبع الأول إلى الكعبة فأراد هدمها ، وكان من الخمسة الذين لهم الدنيا بأسرها ، وكان له وزراء ، فاختار منهم واحدا ، وأخرجه معه ، وكان يسمى عميارسنا لينظر إلى أمر مملكته ، وخرج في مائة ألف وثلاثين ألفا من الفرسان ، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة ، وكان يدخل كل بلدة ، وكانوا يعظمونه ، وكان يختار من كل بلدة عشرة أنفس من حكمائهم ، حتى جاء إلى مكة ومعه أربعة آلاف رجل من الحكماء والعلماء الذين اختارهم من بلدان مختلفة ، فلم يتحرك له أحد ولم يعظموه ، فدعا عليهم ، ودعاء عميارسنا ، وقال : كيف شأن أهل هذا البلد الذين لم يهابوني ، ولم يهابوا عسكري ، كيف شأنهم وأمرهم ؟ قال الوزير : إنهم غريبون جاهلون ، لا يعرفون شيئا ، وإن لهم بيتا يقال له الكعبة ، وإنهم معجبون بها ، ويسجدون للطاغوت والأصنام من دون الله عز وجل ، قال الملك : إنهم معجبون بهذا البيت ؟ قال : نعم ، فنزل ببطحاء مكة معه عسكره ، وتفكر في نفسه دون الوزير ودون الناس ، وعزم أن يأمر بهدم هذا البيت ، وأن التي سميت كعبة تسمى خربة ، وأن يقتل رجالهم ، ويسبي نساءهم وذراريهم ، فأخذه الله عز وجل بالصداع ، وفتح في عينيه وأذنيه وأنفه وفمه ماء منتنا ، فلم يكن يستقر أحد عنده طرفة عين من نتن الريح ، فاستيقظ لذلك ، وقال لوزيره : اجمع العلماء والأطباء وشاورهم في أمري ، فأجمع العلماء والأطباء عنده ، فلم يصبر أحد منهم ولم يمكنهم مداواته ، فقال : قد جمعت حكماء بلدان مختلفة ، ووقعت في هذه العلة ، فلم يقم أحد في مداواتي ؟ فقالوا بأجمعهم : يا قوم أمرنا أمر الدنيا ، وهذا أمر سماوي لا نستطيع مرد أمر السماء ، واشتد الأمر على الملك ، فتفرق الناس ، وأمره كل ساعة اشد ، حتى أقبل الليل وجاء أحد العلماء إلى وزيره ، فقال : إن بيني وبينك سرا ، وهو أنه إن كان الملك يصدق لي في كلامه وما نواه عالجته ، فاستبشر بذلك الوزير وأخذ بيده وحمله إلى الملك ، وقال للملك : إن رجلا من العلماء ذكر : إن صدق الملك وما نواه في قلبه ولم يكتم شيئا منه عالجته ، فاستبشر الملك بذلك ، وأذن له بالدخول عليه ، فدخل ، فقال : إن بيني وبينك سرا أريد الخلوة فيه ، فخلا به ، وقال : هل نويت في هذا البيت أمرا ؟ قال : نعم ، قال : نويت أن أخرب هذا البيت ، وأقتل رجالهم ، وأسبي نساءهم ، فقال : إن وجعك وبلاءك من هذا ، اعلم أن صاحب هذا البيت قوي يعلم الأسرار ، فيجب أن تخرج من قلبك جميع ما نويت من أذى هذا البيت ، وذلك خير الدنيا والآخرة ، قال الملك : قد أخرجت جميع المكروهات من قلبي ، ونويت جميع الخيرات والمعروفات ، فلم يخرج العالم الناصح العالم حتى برأ من العلة وعافاه الله عز وجل ، فآمن بالله عز وجل من ساعته ، وخرج من منزله صحيحا على دين إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وخلع على الكعبة سبعة أثواب ، وهو أول من كسى البيت ، ودعا أهل مكة فأمرهم بحفظ الكعبة ، وخرج هو إلى يثرب . ويثرب هي بقعة فيها عين ماء ليس فيها نبت ، ولا بيت ولا أحد ، فنزل على رأس العين مع عسكره بجمع العلماء والحكماء الذين كانوا معه ، واختارهم من بلدان مختلفة ، ورئيس العلماء العالم الناصح الشفيق لدين الله عز وجل الذي أعلم الملك شأن الكعبة ، ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا فاعتزل من بين أربعة آلاف رجل عالم على أربعمائة رجل ، كل من كان أعلم وأفهم ، وبايع كل واحد منهم صاحبه أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وأحرقهم ، وجاءوا بجملتهم ووقفوا بباب الملك ، وقالوا : إنا خرجنا من بلداننا فطفنا مع الملك زمانا وحينا ونريد أن نقيم في هذا المقام إلى أن نموت فيه ، إنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام إلى أن نموت ، وإن قتلنا وحرقنا ، فقال الملك للوزير : انظر ما شأنهم ، يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ، ولا أستغني عنهم ، وأي حكمة في نزولهم في هذا المقام واختيارهم ؟ فخرج الوزير وجمعهم ، وذكر لهم قول الملك ، فقالوا للوزير : اعلم أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب هذا الرجل الذي يخرج ، يقال له مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام الحق ، صاحب القضيب والناقة والتاج والهراوة ، وصاحب القرآن والقبلة ، وصاحب اللواء والمنبر ، يقول : لا إله إلا الله ، مولده بمكة ، وهجرته إلى ههنا ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا ، فلما سمع الوزير مقالتهم ، هم أن يقيم معهم ، فلما جاء وقت الرحيل ، أمر الملك أن يرتحلوا ، فقالوا بأجمعهم : لا نرحل وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا ، فدعا الملك الوزير ، فقال له : لم تخبر بالمقالة ؟ قال : لأني عزمت على المقام معهم ، وخفت أن لا تدعني ، واعلم أنهم لا يخرجون ، فلما سمع الملك منه تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأمر الملك أن يبنوا أربعمائة دارا ، لكل رجل من العلماء دارا ، واشترى لكل رجل منهم جارية وأعتقها ، وزوجها منه ، وأعطى لكل واحد منهم عطاء جزيلا ، وأمرهم أن يقيموا في ذلك الموضع إلى وقت مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وكتب كتابا وختمه بالذهب ، ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة ، وأمره أن يدفع الكتاب إلى مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أدركه وإن لم يدركه إلى أولاده وأولاد أولاده أبدا ما تناسلوا إلى حين رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ، وكان في الكتاب : أما بعد يا مُحَمَّد ، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزله الله عز وجل عليك ، وأنا على دينك وسنتك ، وآمنت بربك ورب كل شيء ، وبكل ما جاءك من ربك عز وجل من شرائع الإيمان والإسلام ، إنني قبلت ذلك ، فإن أدركتك فبها ونعمت ، وإن لم يدركك فاشفع لي يوم القيامة ، ولا تنسى فإني من أمتك الأوابين وتابعيك قبل مجيئك ، وقبل إرسال الله تعالى إياك ، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وختم الكتاب بالذهب ونقش عليه : لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ { 4 } بِنَصْرِ اللَّهِ سورة الروم آية 4-5 ، وكتب عنوان الكتاب : إلى مُحَمَّد بْن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلوات الله عليه ، من تبع الأول حمير بْن وردع ، أمانة الله في يد من وقع إليه ، إلى أن يوصل إلى صاحبه ، ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصح له في شأن الكعبة وأمره بحفظها ، وخرج تبع من يثرب ، ويثرب هو الموضع الذي نزله العلماء ، وهو مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وسار تبع حتى مر بغلسان بلد من بلاد الهند ، فمات بها .