أخبرنا أَبُو المعالي الحسين بْن حمزة بْن الحسين بْن الشعيري ، نا أَبُو بكر أَحْمَد بْن علي الحافظ ، حدثني مُحَمَّد بْن علي بْن عَبْد اللَّه الصوري ، أنا عَبْد الرحمن بْن عمر التجيبي ، بمصر ، أنا أَبُو هريرة أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن الحسن بْن أَبِي العصام العدوي ، نا أَبُو العباس عيسى بْن عَبْد الرحيم ، حدثني علي بْن مُحَمَّد - هو ابن حيون - حدثني مُحَمَّد بْن أَحْمَد الكوفي ، حدثني الحسين بْن عَبْد الرحمن الحلبي ، عن أبيه ، قال : أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له من أهل البصرة ، فجمعوا ، وأبصرهم طفيلي ، فقال : ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع ، فانسل ، فدخل في وسطهم ، ومضى بهم الموكلون ، حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم ، فدخلوا الزورق ، فقال الطفيلي : هي نزهة ، فدخل معهم الزورق ، فلم يك بأسرع بأن قيد القوم ، وقيد معهم الطفيلي ، فقال الطفيلي : بلغ أمر تطفيلي إلى القيود ، ثم سير بهم إلى بغداد ، فدخلوا على المأمون ، فجعل يدعو بأسمائهم رجلا رجلا فيأمر بضرب رقابهم ، حتى وصل إلى الطفيلي ، وقد استوفوا عدة القوم ، فقال للموكلين بهم : ما هذا ؟ فقالوا : والله ما ندري غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به ، فقال المأمون : ما قصتك ويلك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئا ، ولا يعرف إلا اللَّه ومحمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وإنما أنا رجل رأيتهم مجتمعين ، فظننت صنيعا يغدون إليه ، فضحك المأمون ، وقال : يؤدب ، وكان إِبْرَاهِيم بْن المهدي قائما على رأس المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين هب لي أدبه ، أحدثك بحديث عجيب عن نفسي ، فقال : قل يا إِبْرَاهِيم ، قال : يا أمير المؤمنين خرجت من عندك يوما في سكك بغداد متطربا ، حتى انتهيت إلى موضع سماه ، فشممت يا أمير المؤمنين من جناح أَبَا زير قدور قد فاح طيبها ، فتاقت نفسي إليها ، وإلى طيب ريحها فوقفت على خياط ، وقلت له : لمن هذه الدار ؟ فقال : لرجل من التجار من البزازين ، فقلت : ما اسمه ؟ قال : فلان بْن فلان ، فرميت بطرفي إلى الجناح ، فإذا في بعضه شباك ، فأنظر إلى كف قد خرج من الشباك قابضا على بعضه ، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف ، والمعصم ، عن رائحة القدور ، فبقيت هاهنا ساعة ، ثم أدركني ذهني ، فقلت للخياط : هل هو ممن يشرب النبيذ ؟ قال : نعم ، وأحسب عنده اليوم دعوة ، وليس ينادم إلا تجارا مثله مستورين . فإني كذلك إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب ، فقال الخياط : هؤلاء منادموه ، فقلت : ما أسماءهما وما كناهما ؟ فقال : فلان ، وفلان ، وأخبرني بكناهما ، فحركت دابتي وداخلتهما ، وقلت : جعلت فداكما قد أستبطأكما أَبُو فلان أعزه اللَّه ، وسايرتهما حتى أتينا إلى الباب ، فأجلاني وقدماني ، فدخلت ودخلا ، فلما رآني معهما صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل ، أو قادم قدمت عليهما من موضع ، فرحب وأجلسني في أفضل المواضع ، فجيء - يا أمير المؤمنين - بالمائدة ، وعليها خبز نظيف ، وأتينا بتلك الألوان ، فكان طعمها أطيب من ريحها ، فقلت في نفسي : هذه الألوان قد أكلتها بقيت الكف أصل إلى صاحبتها ، ثم رفع الطعام ، وجيء بالوضوء ، ثم صرنا إلى منزل المنادمة ، فإذا أشكل منزل يا أمير المؤمنين ، وجعل صاحب المنزل يلطفني ، ويقبل علي بالحديث ، وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه لي عن معرفة متقدمة ، وإنما ذلك الفعل كان منه لما ظن أني منهما بسبيل ، حتى إذا شربنا أقداحا خرجت علينا جارية - يا أمير المؤمنين - كأنها غصن بان تتثنى ، فأقبلت تمشي ، فسلمت غير خجلة ، وثنيت لها وسادة ، فجلست وأتي بعود ، فوضع في حجرها ، فجسته ، فاستنبأت في جسها حذقها ، ثم اندفعت تغني ، وتقول : توهمها طرفي فأصبح خدها وفيه مكان الوهم من نظري أثر وصافحها قلبي فآلم كفها فمن مس قلبي في أناملها عقر فهيجت - يا أمير المؤمنين - بلابلي ، وطربت بحسن شعرها وحذقها ، ثم اندفعت تغني : أشرت إليها : هل عرفت مودتي فردت بطرف العين : إني على العهد فحدت عن الإظهار عمدا لسرها وحادت عن الإظهار أيضا على عمد فصحت : السلامة يا أمير المؤمنين ، وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي ، ثم اندفعت تغني الصوت الثالث : أليس عجيبا أن بيتا يضمني وإياك لا نخلو ولا نتكلم سوى أعين تشكو الهوى بجفونها وتقطيع أنفاس على الناي تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب وتكسير أجفان وكف تسلم فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ، وإصابتها معنى الشعر ، أنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت فيه فقلت : بقي عليك يا جارية شيء ، فضربت بعودها الأرض ، وقالت : متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء ؟ فندمت على ما كان مني ، ورأيت القوم كأنهم قد تغيروا بي ، فقلت : ليس ، ثم عود ؟ فقالوا : بلى والله يا سيدنا ، فأتينا بعود ، فأصلحت من شأني ما أردت ، ثم اندفعت أغني : ما للمنازل لا يجبن حزينا أصممن أم قدم المدي فبلينا روحوا العشية روحة مذكورة أن متن متن وإن حيين حيينا فما استتممته - يا أمير المؤمنين - حتى خرجت الجارية فأكبت على رجلي ، فقبلتها ، وتقول : معذرة يا سيدي والله ما سمعت من يغني هذا الصوت مثلك أحد ، وقام مولاها وجميع من كان حاضرا فصنعوا كصنيعها ، وطرب القوم ، واسحثوا الشراب ، فشربوا بالكاسات ، والطاسات ، ثم اندفعت أغني : أفي اللَّه أن تمشين لا تذكرينني وقد سمحت عيناي من ذكرك الدما إلى اللَّه أشكو بخلها وسماحتي لها عسل مني وتبذل علقما فردي مصاب القلب أنت قتلته ولا تتركيه ذاهب العقل مضرما إلى اللَّه أشكو أنها أجنبية وأني ما عشت بالود مغرما فجاءنا من طرب القوم - يا أمير المؤمنين - شيء خشيت أن يخرجوا من عقولهم ، فأمسكت ساعة حتى هدأوا مما كانوا فيه من الطرب ، ثم اندفعت أتغنى بالصوت الثالث : هذا محبك مطوي على كمده حرى مدامعه تجري على جسده له يد تسأل الرحمن راحته مما به ويد أخرى على كمده يا من رأى أسفا مستهترا دنفا كانت منيته في عينه ويده فجعلت الجارية تصيح هذا - والله - الغناء يا سيدي ، وذكر الحكاية إلى أن قال : وخلوت معه ، ثم قال لي : يا سيدي ذهب ما كان من أيامي ضياعا إذ كنت لا أعرفك ، فمن أنت يا مولاي ؟ فلم يزل يلج علي حتى أخبرته ، فقام فقبل رأسي ، وقال : يا سيدي ، وأنا أعجب يكون هذا الأدب إلا من مثلك ، وإذا إني مع الخلافة وأنا لا أشعر ، ثم سألني عن قصتي ، وكيف حملت نفسي على ما فعلت ، فأخبرته خبر الطعام ، وخبر الكف والمعصم ، فقلت : أما الطعام ، فقد نلت منه حاجتي ، فقال : والكف ، والمعصم ؟ ثم قال : يا فلانة - لجارية له - قولي لفلانة تنزل ، فجعل ينزل لي واحدة واحدة ، فأنظر إلى كفها ، ومعصمها ، فأقول : ليس هي ، قال : والله ما بقي غير أختي ، وأمي ، والله لأنزلنهما إليك ، فعجبت من كرمه ، وسعة صدره ، فقلت : جعلت فداك ابدأ بأختك قبل الأم ، فعسى أن تكون هي ، فقال : صدقت ، فنزلت ، فلما رأيت كفها ، ومعصمها ، قلت : هي ذه . فأمر غلمانه ، فصاروا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه في ذلك الوقت ، فأحضروا ، ثم أمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم ، وقال للمشايخ : هذه أختي فلانة أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي إِبْرَاهِيم بْن المهدي ، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم ، فرضيت ، وقبلت النكاح ، ودفع إليها البدرة ، وفرق البدرة الأخرى على المشايخ ، ثم قال لهم : اعذروا هذا ما حضر على الحال ، فقبضوها ، ونهضوا . ثم قال لي : يا سيدي ، أمهد لك بعض البيوت تنام مع أهلك ، فأحشمني - والله - ما رأيت من سعة صدره ، وكرم خيمه ، فقلت : بل أحضر عمارية ، وأحملها إلى منزلي ، قال : ما شئت ، فأحضرت عمارية ، فحملتها ، وصرت بها إلى منزلي ، فوحقك - يا أمير المؤمنين - لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاقت به بعض بيوتنا ، فأولدتها هذا القائم على رأس سيدي أمير المؤمنين . فعجب المأمون من كرم ذلك الرجل ، وسعة صدره ، وقال : لله أبوه ما سمعت مثله قط ، ثم أطلق الرجل الطفيلي وأجازه بجائزة سنية ، وأمر إِبْرَاهِيم بإحضار الرجل ، فكان من خواص المأمون ، وأهل محبته .