حَدَّثَنِي حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى ، قَالَ : لَمَّا ادَّعَى مُعَاوِيَةُ زِيَادًا ، وَآثَرَ عَمْرَو بْنِ الْعَاصِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَقَرَّبَهُمَا دُونَهُمْ جَزِعَ بَنُو أُمَيَّةَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا ، وَاجْتَمَعُوا فِي ذَلِكَ ، فَأَتَوْا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي بَيْتِهِ ، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ مُعَاوِيَةُ عَهْدَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْبِرَ يَوْمَهُ ذَلِكَ . فَقَالَ الْقَوْمُ : يَا مَرْوَانُ ، إِنَّكَ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا ، وَقَدْ تَرَى مَا رَكِبَنَا مُعَاوِيَةُ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ لَنَا عَلَيْهِ صَبْرٌ وَلا قَرَارٌ ، وَلا يَنَامُ عَنْ مِثْلِهِ الأَحْرَارُ ، إِدْخَالُهُ فِينَا مَنْ لَيْسَ مِنَّا ، يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَى حُرُمِنَا وَنِسَائِنَا ، وَقَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُنَا عَلَى أَنْ تَأْتِيَهُ فَتُعَاتِبَهُ . فَإِنْ رَجَعْ قَبِلْنَا ، وَإِنْ أَبَى اعْتَزَلْنَا . فَقَالَ مَرْوَانُ : قَدْ وَاللَّهِ كَلَّمْتُهُ فِي هَذَا الأَمْرِ غَيْرَ مَرْةٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى شَيْءٍ مِمَّا أُحِبُّ ، بَلْ يُظْهِرُ لِي التَّعَتُّبَ وَالتَّغَضُّبَ ، وَيَزْعُمُ أَنِّي فِي هَذَا الأَمِرِ أَوْحَدُ . فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ : يَا مَرْوَانُ ، بَلْ وَاللَّهِ تُحَامِي عَلَى عَهْدِكَ . فَقَالَ مَرْوَانُ : وَاللَّهِ لَصَلاحُكُمْ فِي فَسَادِ عَهْدِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَسَادِكُمْ فِي صَلاحِ عَهْدِي . فَأْتُوهُ فِإِنَّهُ رَجُلٌ لَهُ إِرَبٌ وَنَظَرٌ ، فَكَلِّمُوهُ بِمِلْءِ أَفْوَاهِكُمْ . قَالَ : فَانْطَلَقَ الْقَوْمُ فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ ، فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَسَلَّمُوا ، فَأَحْسَنَ الرَّدَّ ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ : أَهَلا وَسَهْلا ، قَرَّبَ اللَّهُ الدِّيَارَ وَأَدْنَى الْمَزَارَ . أَزِيَارَةٌ فَتُحْظَى ؟ أَمْ حَاجَةٌ فَتُقْضَى ؟ أَمْ سَخْطَةٌ فَتُرْضَى ؟ فَقَالَوا : كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : هَاتُوا فَجَلَسَ الْقَوْمُ ، وَمَثَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ بَيْنَ يَدَيِهِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، جَاءَتْكَ عِصَابَةٌ مِنْ رَهْطِكَ ، وَأَحْرَارٌ مِنْ أُسْرَتِكَ ، كُلُّهُمْ عَارِفٌ بِفَضْلِكَ ، رَاعٍ لِحَقِّكَ ، تَابِعٌ لأمْرِكَ ، رَافِعٌ لِذِكْرِكَ ، فِي أَمْرٍ سِتْرُهُ خَيْرٌ مِنْ نَشْرِهِ ، وَتَرْكُهُ خُيرٌ مِنْ ذِكْرِهِ ، لِعِظَمِ الْبَلِيَّةِ وَالْخَطِيئَةِ وَاللأْوَاءِ ، وَالْبَلْوَى وَالآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِكَ تَجَنِّيًا ، وَلا تَجَرُّمًا ، وَلا تَعتُّبًا . بَلْ جِئْنَاكَ فِي أَمْرٍ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ حَمْلِهِ الْجُنُوبُ ، وَضَاقَتْ بِهِ الْقُلُوبُ ، وَكَرِهْنَا أنْ نَطْوِيَهُ عَنْكَ ، فَيَثْبُتَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِنَا ، مَا لا يُحْصَدُ لإِبَّانِهِ ، وَلا يَبِيدُ لِزَمَانِهِ ، فَإِنْ تَأذَنْ قَبِلْنَا ، وَإِنْ تَأْبَ صَمَتْنَا ، مَعَ أَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا نُحِبُّ حَمَدْنَا وَشَكَرْنَا ، وَإِنْ تَأْبَ ذَلِكَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : هَاتِ لِلِّهِ أَبُوكَ . قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَلَدَ عَشْرَةً ذُكُورًا ، وَلَدَ حَرْبًا وَأَبَا حَرْبٍ ، وَسُفْيَانَ وَأَبَا سُفْيَانَ ، وَعَمْرًا وَأَبَا عَمْرٍو ، وَالْعَاصِيَ وَأَبَا الْعَاصِي ، وَالْعِيصَ وَأَبَا الْعِيصِ ، لَمْ يَلِدْ عُبَيْدًا عَبْدَ ثَقِيفٍ ، وَلا الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ ، وَقَدْ جَعَلْتَهُمَا شِعَارَكَ دُونَ دِثَارِكَ ، بَلْ سِرْبَالَكَ دُونَ إِزَارِكَ ، بَلْ نَفْسَكَ بَيْنَ جَنْبَيْكَ ، ثُمَّ لَمْ تَرْضَ لابْنِ عُبَيْدٍ حَتَّى جَعَلْتَهُ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَضِيهَةً لِأَبِيكَ ، وَازْدِرَاءً بِبَنِيكَ ، وَمَعَ أَنَّ فِي ذَلِكَ السَّخْطَةَ مِنْ رَبِّكَ ، وَالْمُخَالَفَةَ لِنَبِيِّكَ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرَ ، فَقَضَيْتَ أَنْتَ بِالْوَلِدِ ، ثُمَّ نَسَبْتَ أَبَاكَ عَاهِرًا ، وَكَانَ غَنِيًّا عَنْ ذَلِكَ ، فَشَهَرْتَ أَمْرًا كَانَ مَسْتُورًا ، وَرَفَعْتَ أَمْرًا كَانَ حَقِيرًا ، تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَهُ عَلَى حُرُمِكَ ، وَتَمْنَحَ وَلَدَهْ غدًا نِسَاءَكَ . ثُمَّ قَالَ : أَتَرْضَى يَا مُعَاوِيَةُ بْنَ حَرْبٍ بَأَنْ تَحْبُو كَرَائِمُكَ الْعَبِيدَا كَأَنِّي وَالَّذِي أَصْبَحْتُ عَبْدًا لَهُ بِالْقَوْمِ قَدْ شَرَكُوا يَزِيدَا فَإِنْ تَرْجِعْ فَمَثْلُكَ زَادَ خَيْرًا وَإِنْ تَأبَ فَلَمْ تُطِعِ الرَّشِيدَا وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، فَإِنَّكَ أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهَ ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْغِنَى عَنْكَ ، وَايْمُ اللَّهِ لَنَحْنُ أَنْصَعُ جُيُوبًا ، وَأَقَلُّ عُيُوبًا ، وَأَمَسُّ رَحِمًا ، وَأَوْجَبُ حَقًّا مِنْهُ ، وَمَا مَنْ أَمْرٍ يَبْلُغُ فِيهِ بِنَا عَنْهُ تَقْصِيرٌ ، غَيْرَ أَنَّكَ رَفَعْتَ الْمَرْءَ فَوْقَ قَدْرِهِ ، فَطَغَى عَلَيْنَا بِفَخْرِهِ ، وَزَخَرَ بِبَحْرِهِ ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَليسَ بِشَيْءٍ . وَإِنَّكَ وَإِيَّاهُ وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الأَوَّلُ : مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُ الأَبْعَدِينَ وَيَشْقَى بِهِ الأَقْرَبُ الأَقْرَبُ ثُمَّ قَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ ، وَأَشَدَّ الْقَوْلِ أَمْلَقُهُ ، وَإِنَّ الْحَقَّ الأَبْلَجَ أَقْوَمُ إِلَى طَرِيقِ النَّهْجِ ، وَإِنَّكَ قَدْ أُتِيتَ أَمْرًا عَظِيمًا نَاهِيًا مُتَبَايِنًا ، تَتَابَعْتَ فِيهِ ، وَرَكِبْتَ فِي ذَلِكَ عَقَبَةً كَئُودًا ، صَيْخَدًا صَيْخُودًا ، فِي تَنَائِفَ لا يُهْتَدَى فِيهِا بِدَلِيلٍ ، وَلا يُؤَمُّ فِيهَا قَصْدُ السَّبِيلِ ، قَصَّرْتَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ ، وَأَزْرَيْتَ بِأَبِيكَ ، فَإِنْ تَرْجِعْ قَبِلْنَا ، وَإِنْ تَأْبَ غَضِبْنَا ، فَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ ، تَبَارَكَت أسْمَاؤُهُ ، وَانْظُرْ مَا الَّذِي أَقْدَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّكَ عَمَدْتَ إِلَى امْرِئٍ لا رَحِمَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، وَلا هَوَادَةَ ، وَإِنَّمَا عَهْدُكَ بِهِ بِالأمْسِ وَهُوَ عَامِلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، يَلْعَنُكَ وَيَلْعَنُ أَبَاكَ ، وَأَهْلَ بَيْتِكَ عَلى الْمِنْبَرِ ، يَتَأَوَّلُ فِينَا الْقُرْآنَ ، وَيَقُولُ الْبُهْتَانَ ، وَقَدْ كُنْتَ تَخْتَزِي مِنْ ذَلِكَ ، إِذَا عَظَّمْتَهُ أَنْ تَجْعَلَهُ وَزِيرًا وَخُلْصَانًا فَلا يُعَابُ ذَلِكَ عَلَيْكَ ، وَلا يُنْسَبُ الْخَطَأُ إِلَيْكَ ، فَلَمْ يَرْضَ حَتَّى نَسَبْتَهُ إِلَى أَبِي سُفْيانَ إِلَى نَسَبٍ . إِنْ يُقْبَلْ مِنْكَ عُيِّرْتَ بِهِ آخِرَ دَهْرِكَ ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْكَ أُزْرِيتَ بَهِ ، وَصَدَّقْتَ فِي ذَلِكَ قُولَ الشَّاعِرِ ، حَيْثُ يَقُولُ : أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوَكَ عَفٌّ وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِ فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ كَرَحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ تَفَخَّذُوا نَسَاءَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بَنَسَبِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَهَذَا مَا وَصَلْتَ بِهِ كَرَائِمَكَ مِنْ بِعْدِكَ ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَإِنَّكَ آثَرْتَهُ عَلَيْنَا ، وَأَدْنَيْتَهُ دُونَنَا ، وَنَحْنُ فِي حَالٍ وَعَمْرٌو فِي أُخْرَى ، أَمَّا نَحْنُ فَنُعَامِلُ النَّاسَ بِالْوَفَاءِ وَالْحَياءِ ، وَعَمْرٌو يُعَامِلُ النَّاسَ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ ، وَمَنْ كَانَ ذَلِكَ فَلا وَفَاءَ لَهُ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ غِشُّهُ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ غَشَّ أَوَّلا أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آخِرًا . ثُمَّ دَخَلَ مَرْوَانُ عِنْدَ جِلُوسِ الْقَوْمِ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : هِيهِ يَا مَرْوَانُ ، أَعَنْ رَأْيكَ صَدَرَ هَؤُلاءِ حَتَّى أَسْمَعُونِي مَا أَكْرَهُ ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُكَ ؟ قَالَ : هَاتِ تَخْطِيطًا كَتَخْطِيطِ أَصْحَابِكَ . قَالَ : إِنَّ عَديَّ بْنَ زَيْدٍ الْعَبَّادِيَّ نَصَحَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ ، وَقَدَّمَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ ، وَأَشَارَ عَلَى كِسْرَى بِوِلايَتِهِ ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ مِنْهُ أَنْ حَبَسَهُ فِي السِّجْنِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ : أَبَا مُنْذِرٍ جَازَيْتَ بِالْوِدِّ بُغْضَةً فَمَاذَا جَزَاءُ الْمُبْغَضِ الْمُتَبَغَّضِ مُجَازَاتُهُ فِي ذَا الْمِثَالِ كَرَاهَةٌ وَلَسْتُ لِشيءٍ بَعَدُ بِالْمُتَعَرِّضِ وَاعْلَمْ أَنَّا غَيْرُ مُتَعَرِّضِينَ لِشَيْءٍ مِنْ مُعَاتَبَتِكَ فِي هَذَا الأَمْرِ بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَإِنْ تَرْجِعْ قَبِلْنَا ، وَإِنْ تَأْبَ سَخِطْنَا ، مَعَ أَنَّكَ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ قَدَرْتَ أَنْ تَتَكَثَّرَ بِالذَّبْحِ عَلَى آلِ أَبِي الْعَاصِ لَفَعَلْتَ ، تَوَحُّشًا مِنْكَ لِعَدَدِهِمْ ، وَتَكَرُّهًا مِنْكَ لِجَمْعِهِمْ ، وَتَبَرُّمًا مِنْكَ بِهِمْ . وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ جَزَاؤُهُمْ مِنْكَ . لَقَدْ آثَرُوكَ وَأَكْرَمُوكَ . فَمَا كَافَيْتَ ، وَلا جَازَيْتَ ، وَلا آسَيْتَ . ثُمَّ جَلَسَ مَرْوَانُ ، وَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَدَخَلَ الْمَنْزِلَ ، وَأَطَالَ الْمُكْثَ ، ثُمَّ خَرَجَ قَاطِبًا مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، يَمْسَحُ عَارِضَيْهِ ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : أَمَا وَالَّذِي نَادَى مِنَ الطُّورِ عَبْدَهُ نِدَاءً سَمِيعًا فَاسْتَجَابَ وَسَلَّمَا لَقَدْ كِدْتُ لَوْلا اللَّهُ لا شَيْءَ غَيْرُهُ تَبَارَكَ رَبِّي ذُو الْعُلا أَنْ أُصَمِّمَا وَلَكِنَّنِي رُوِّيتُ فِي الْحِلْمِ وَالنُّهَى وَقَدْ قَالَ فِيهِ ذُو الْمَقَالِ فَأَحْكَمَا وَايْمُ اللَّهِ ، مَعَ ذَلِكَ لَقَدْ قَطَعْتُمْ مِنْ زِيَادٍ رَحِمًا قَرِيبَةً ، وَنَفْسًا حَبِيبَةً ، وَقُلْتُمُ الْبُهْتَانَ فِي غَيْرِ مَا تَثَبُّتٍ وَلا بَيَانٍ ، وَإِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِي ، وَلَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَمِيَّةِ ، وَطلَبِ التِّرَاتِ ، وَذِكْرِ قَبِيحِ الأُمَّهَاتِ . فَسَفْكُ الدِّمَاءِ ، وَالشِّرْكُ بِرَبِّ السَّمَاءِ ، أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ . وايْمُ اللَّهِ ، مَا إِيَّاهُ رَاقَبْتُمْ ، وَلا لِي نَظَرْتُمْ ، بَلْ أَدْرَكَكُمُ الْحَسَدُ الْقَدِيمُ لِبَنِي حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ . وَإِنَّ نَفْسِي لَتُؤَامِرُنِي أَنْ أُقِيمَ فِيكُمْ حَدَّ اللَّهِ ، وَمَا أَرَاهُ يَسَعُنِي غَيْرُ ذَلِكَ . وَلَئِنْ عُدْتُمْ إِلَى مَا أَرَى ، وَجَاءَنِي مِنْ وَرَاءِ مَا أَكْرَهُ ، لأَنْهَلَنَّكُمْ صَابًا ، ثُمَّ لأُعِلَنَّكُمْ عَلْقَمًا ، ثُمَّ لأُورِدَنَّكُمْ حِيَاضًا مَرِيرًا طَعْمُهَا ، ثُمَّ لا تُتْرَكُونَ بِغَيْرِ كَرْعِهَا ، وَإِنْ جَاءَكُمُ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، حَتَّى تَعْلَمُوا مَعَ طُولِ حِلْمِي ، أَنْ قَدْ مُنِيتُمْ بِمَنْ إِنْ حَزَّ قَطَعَ ، وَإِنْ هَزَّ أَوْجَعَ ، ثُمَّ لا تُقَالُ لَكُمْ عِنْدِي الْعَثَرَاتُ ، وَلا تُعْفَا لَكُمُ السَّيِّئَاتُ ، ثُمَّ لَيُسْتَصْعَبَنَّ عَلَيْكُمْ مِنِّي مَا كَانَ سَهْلا ، وَلَتَتْرُكُنَّ مَا كَانَ هَيَّنًا . فَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ أَنِّي أَصَبْتُ السُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ بَحَقِّكُمْ وَنِسْبَتِكُمْ ، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ يَا آلَ الْعَاصِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، قُتِلَ وَأَنْتُمْ حُضُورٌ وَأَنَا غَائِبٌ ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ مَدَّ بَاعًا ، وَلا بَسَطَ ذِرَاعًا ، بَلْ أَسْلَمْتُمُوهُ لِلْحُتُوفِ ، وَشِمْتُمْ مِنْ بَعْدِهِ السِّيُوفَ ، فَمَا نَصَرْتُمُوهُ ، وَلا آسَيْتُمُوهُ ، وَلا مَنَعْتُمُوهُ بُأَكْثَرَ مِنَ الَّكَلامِ ، فَمَا أَبْلَيْتُمْ فِي ذَلِكَ عُذْرًا ، وَلا أَلْهَبْتُمْ نَارًا . وَإِنْ جَمِيعَ مَنْ أَلَّبَ عَلَيْهِ وَأَجْلَبَ لَسَبَبِكُمْ ، وَإِيثَارِهِ إِيَّاكُمْ ، وَبِذَلِكَ قُطِعَتْ أَوْدَاجُهُ عَلَى أَثْبَاجِهِ ، وَسُفِكَ دَمُهُ ، وَاسْتُحِلَّتْ حُرْمَتُهُ ، فَمَا شَبَّبْتُمْ نَارًا ، وَلا طَلَبْتُمْ ثَارًا ، حَتَّى كُنْتُ أَنَا الطَّالِبَ بِالتِّرِاتِ ، الْمُثْكِلَ لِلأُمَّهَاتِ ، وَلَقَدْ مُنِيتُ فِي الطَّلَبِ بَدَمِهِ بِحَرْبِ امْرِئٍ لا تَخُورُ قَنَاتُهُ ، وَلا تَنْصَدِعُ صِفَاتُهُ ، مَنْ إِنْ فُزِّعْتُ لَمْ يَفْزَعْ . وَإِنْ أُطْعِمْتُ لَمْ يَطْمَعْ ، مَنْ لا يُطمَعُ فِي قَرَارِهِ ، وَلا يُنامُ مِنْ حَذَارِهِ ، بُلِيتُ وَاللَّهِ ، بِلَيْثٍ ثَابِتَةٍ أَنْيَابُهُ ، قَلِيلٍ غُلابُهُ ، مُصَمِّمٍ غَضُوبٍ شَثْنٍ مَهِيبٍ ، فَلَمْ أَزَلْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ صَابِرًا ، حَتَّى قَضَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحِبُّ ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَأَدْرَكْتُ بِالثَّأْرِ إِذْ لَمْ تُدْرِكُوا ، وَصَبَرْتُ إِذْ لَمْ تَصْبِرُوا ، فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالشُّكْرِ ، أَنَا لَكُمْ ، أَمْ أَنْتُمْ لِي ؟ وَقَدْ كَانَتْ تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ هَنَاتٌ قَبْلَ مَخْضَةِ زُبْدَتِكُمْ ، كُلُّ ذَلِكَ أَتَعَطَّفُ عَلَيْكُمْ بِحِلْمِي ، وَأَتَحَنَّنُ عَلَيْكُمْ بِجَهْدِي . وَكُنْتُ فِي ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ : أَعُوذُ عَلَى ذِي الذَّنْبِ وَالْجَهْلِ مِنْكُمُ بِحِلْمِي وَلَوْ عَاقَبْتُ غَرَّقَكُمْ بَحْرِي فَمَا بَالُ مَنْ يَسْعَى لأَجْبُرَ عَظْمَهُ حِفَاظًا وَيَنْوِي مِنْ سَفَاهَتِهِ كَسْرِي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُنِي قَطُّ إِلا وَنَفْسِي تَدْعُونِي إِلَى الْحِلْمِ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي شَرَّ مَا دَعَتْنِي إِلَيْهِ نَفْسِي . ثُمَّ قَالَ : أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى أَمَا إِنِّي فِي وَعِيدِي إِيَّاكُمْ ، كَمَا قَالَ الأَوَّلُ : لَقَدْ كِدْتُمُ يَا آلَ بَكْرٍ سَفَاهَةً تُثِيرُونَ مِنِّي أَعْصَلَ النَّابِ ضَيْغَمًا هِزَبْرًا هَرِيتًا يَكْرهُ الْقِرْنُ قُرْبَهُ إِذَا صَالَ مِنْ بَعْدِ الزَّئِيرِ وَصَمَّمَا وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَهَا هُوَ حَاضِرٌ ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَفْعِلْ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَدَعَ فَلْيَدَعْ ، أَمَا إِنِّي أَرْضَاهُ لِلْخَصْمِ إِذَا جَمَحَ ، وَلِلْقِرْنِ إِذَا طَمَحَ . ثُمَّ سَكَتَ . فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مَائِلا بَيْنَ يَدَيِهِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ يَوْمَ صِفِّينَ : إِذَا تَخَازَرْتُ وَمَا بِي مِنْ خَزَرْ ثُمَّ كَسَرْتُ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِ عَوَرْ أَلْفَيْتَنِي أَلْوِي بَعِيدَ الْمُسْتَمرْ أَحْمِلُ مَا حُمِّلْتُ مِنْ خَيرٍ وَشَرْ إِنِّي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنَا بِالْغِرِّ وَلا الْغُمْرِ ، وَلا الضَّرَعِ وَلا الْوَرِعِ ، وَلا الْوَانِي ، وَلا الْفَانِي ، وَإِنِّي لَأَنَا الْحَيَّةُ الصَّمَّاءُ الَّتِي لا يُبَلُّ سَلِيمُهَا ، وَلا يَنَامُ كَلِيمُهَا ، وَإِنِّي لأَنَا الْمَرْءُ ، إِنْ كَوَيْتُ أَنْضَجْتُ ، وَإِنْ هَمَزْتُ كَسَرْتُ ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُشَاوِرْ ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤَامِرْ ، مَعْ أَنَّهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ عَايَنُوا مِنْ يَوْمِ الْهَرِيرِ مَا عَايَنْتُ ، أَوْ وُلُّوا مثل مَا وُلِّيتُ ، إِذْ شَدَّ عَلَيْنَا أَبُو حَسَنٍ فِي كَتَائِبَهُ مَعَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ ، وَأَبْطَالِ الْعَشَائِرِ ، فَهُنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَخَصَتِ الأَبْصَارُ ، وَارْتَفَعَ الشَّرَارُ ، وَقَلُصَتِ الْخُصَى إِلَى مَوَاضِعِ الْكُلَى ، وَقَارَعَتِ الأُمَّهَاتُ عَنْ ثُكْلِهَا ، وَذُهِلَتْ عَنْ حَمْلِهَا ، وَاحْمَرَّ الْحِدَقُ ، وَاغْبَرَّ الأُفُقُ ، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ ، وَسالَ الْعَلَقُ ، وَارْتَفَعَ غُبَارُ الْقَتَامِ ، وَصَبَرَ الْكِرَامُ ، وَغَاضَ اللَّئَامُ ، وَذَهَبَ الْكَلامُ ، وَأُزْبِدَتِ الأَشْدَاقُ ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ، وَحَضَرَ الْفِرَاقُ ، وَكَثُرَ الْعِنَاقُ ، وَبَانَتِ الأَعْنَاقُ ، وَقَامَتِ الرِّجَالُ فِي رَكْبِهَا مِنْ بَعْدِ فَنَاءٍ مِنْ نَبْلِهَا ، وَتَقَصُّفٍ مِنْ رِمَاحِهَا ، فَلا يُسْمَعُ إِلا التَّغَمْغُمُ مِنَ الرِّجَالِ ، وَالتَّحَمْحُمُ مِنَ الْخَيْلِ ، وَوَقْعُ السُّيوفِ فِي الْهَامِ . فَدَارَ يَوْمُنَا ذَلِكَ حَتَّى طَفَقَنَا اللَّيْلُ بِغَسَقِهِ ، ثُمَّ انْجَلَى الصُّبْحُ بَفَلَقِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْقِتَالِ إِلا الهَرِيرُ ، وَالزَّئِيرُ . أَمَا وَاللَّهِ لَعَلِمُوا أَنِّي أَعْظَمُ غَنَاءً ، وَأَحْسَنُ بَلاءً ، وَأَصْبَرُ عَلَى اللأْوَاءِ مِنْهُمْ ، وَأَنِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَأُغْضِي عَلَى أَشْيَاءَ لَوْ شِئْتُ قُلْتُهَا وَلَوْ قُلْتُهَا لَمْ أُبْقِ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنْ كَانَ عُودِي مِنْ نُضَارٍ فَإِنَّنِي لَأَكْرَهُ يَوْمًا أَنْ أُحَطِّمَ خَرْوَعًا وَلَئِنْ جَعَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شِعَارَهُ دُونَ دِثَارِهِ ، أَوْ سِرْبَالَهُ دُونَ إِزَارِهِ ، أَوْ نَفْسَهَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ ، لَقَدْ أُولِيتُ ذَلِكَ ، فَوَجَدْتُهُ شَكُورًا ذَكُورًا ، إِذْ لَمْ تَشْكُرُوهُ ، وَلَمْ تَذْكُرُوهُ ، وَلا إِيَّايَ إِذْ طَلَبْنَا بِدَمِ عُثْمَانَ ، إِذْ لَمْ تَحْسَبُوهُ ، وَبَلَغْنَا الْغَايَةَ إِذْ لَمْ تَبْلُغُوا ، وَإِذْ جَحَدْتُمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَنْتُمْ لِلنُّعْمَى أَنْكَرُ وَأَكْفَرُ ، وَأَمَّا مَا زَعَمْتَ يَا سَعِيدُ بْنَ الْعَاصِ أَنِّي أُعَامِلُ النَّاسَ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ ، فَإِنِّي أَنَالُ بِالأَدَبِ ، وَاللُّبِّ ، وَالرِّفْقِ وَالصِّدْقِ ، إِذْ خَرَقَ مَنْ لَمْ يَرْفُقْ ، وَخَابَ مَنْ لَمْ يَصْدُقْ . وَأَمَّا قَوْلُكَ أَنِّي غَشَشْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَمَا غَشَّ امْرُؤٌ كَرِيمٌ امْرَأً كَرِيمًا إِنْ دَعَا إِلَى النَّصْفِ أَنْ يَقْبَلَهُ ، وَإِنَّكَ فِي قَوْلِكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَأَهْلٌ لِلتَّضْعِيفِ وَالتَّعْنِيفِ وَالْغَضَاضَةِ وَالْمَضَاضَةِ ، غَيْرَ أَنَّ حِلْمَهُ يَأْتِي عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَعْفُوَ لِلْقَوْمِ مَا قَالُوا إِنْ هُمْ آلَوْا لِاسْتِتْمَامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِمْ وَأَيَادِيكَ عِنْدَهُمْ ، فَلَيْسُوا رَاجِعِينَ إِلَى أَمْرٍ تَكْرَهُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ مُعَاوِيَةُ : قَدْ فَعَلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، وَدَخَلَ ، وَأَمَرَ الْقَوْمَ فَانْصَرَفُوا " .