القول في تاويل قوله تعالى حتى اذا فتحت ياجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون سورة الانبيا...


تفسير

رقم الحديث : 22637

وكان سبب ذلك كما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ الْبُخَارِيُّ ، قَالَ : ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ أبو هِشَامٍ ، قَالَ : ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ ، يَقُولُ : " كَانَ بَدْءُ أَمْرِ أَيُّوبَ الصِّدِّيقِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، أَنَّهُ كَانَ صَابِرًا , نِعْمَ الْعَبْدُ . قَالَ وَهْبٌ : إِنَّ لِجبريل بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَقَامًا لَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي الْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ , وَالْفَضِيلَةِ عِنْدَهُ ، وَإِنَّ جبريل هُوَ الَّذِي يَتَلَقَّى الْكَلامَ ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ عَبْدًا بِخَيْرٍ تَلَقَّاهُ منه جبريلُ , ثُمَّ تَلَقَّاهُ مِيكَائِيلُ ، وَحَوْلَهُ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، صَارَتِ الصَّلاةُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ ، فَإِذَا صَلَّتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةُ السَّمَوَاتِ ، هَبَطَتْ عَلَيْهِ بِالصَّلاةِ إِلَى مَلائِكَةِ الأَرْضِ ، وَكَانَ إِبْلِيسُ لا يُحْجَبُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ ، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثمَا أَرَادَ ، وَمِنْ هُنَالِكَ وَصَلَ إِلَى آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ . فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ يَصْعَدُ فِي السَّمَوَاتِ ، حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَحُجِبَ مِنْ أَرْبَعٍ ، وَكَانَ يَصْعَدُ فِي ثَلاثٍ ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حُجِبَ مِنَ الثَّلاثِ الْبَاقِيَةِ ، فَهُوَ مَحْجُوبٌ هُوَ وَجَمِيعُ جُنُودِهِ مِنْ جَمِيعِ السَّمَوَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثاقب ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرْتِ الْجِنُّ مَا كَانَتْ تَعْرِفُ ، حِينَ قَالَتْ : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا سورة الجن آية 8 ، إِلَى قَوْلِهِ : شِهَابًا رَصَدًا سورة الجن آية 9 ، قَالَ وَهْبٌ : فَلَمْ يَرُعْ إِبْلِيسَ إِلا تَجَاوُبُ مَلائِكَتِهَا بِالصَّلاةِ عَلَى أَيُّوبَ ، وَذَلِكَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ صَلاةَ الْمَلائِكَةِ ، أَدْرَكَهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ ، وَصَعِدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ مَكَانًا كَانَ يَقِفُهُ ، فَقَالَ : يَا إِلَهِي ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِ عَبْدِكَ أَيُّوبَ ، فَوَجَدْتُهُ عَبْدًا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فَشَكَرَكَ ، وَعَافَيْتَهُ فَحَمِدَكَ ، ثُمَّ لَمْ تُجَرِّبْهُ بِشِدَّةٍ , وَلَمْ تُجَرِّبْهُ بِبَلاءٍ ، وَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ , لَئِنْ ضَرَبْتَهُ بِالْبَلاءِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ , وَلَيَنْسَيَنَّكَ , وَلَيَعْبُدَنَّ غَيْرَكَ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ : انْطَلِقْ ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ ، فَإِنَّهُ الأَمْرُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ يَشْكُرُنِي ، لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى جَسَدِهِ وَلا عَلَى عَقْلِهِ ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى الأَرْضِ ، ثُمَّ جَمَعَ عَفَارِيتَ الشَّيَاطِينِ وَعُظَمَاءَهُمْ ، وَكَانَ لأَيُّوبَ الْبَثَنِيَّةُ مِنَ الشَّامِ كُلِّهَا ، بِمَا فِيهَا مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا ، وَكَانَ لَهُ بِهَا أَلْفُ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا ، وَخَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتْبَعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ , وَوَلَدٌ وَمَالٌ ، ويَحِمْلُ آلَةَ كُلِّ فَدَّانٍ أَتَانٌ ، لِكُلِّ أَتَانٍ وَلَدٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلاثَةٍ , وَأَرْبَعَةٍ , وَخَمْسَةٍ , وَفَوْقَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا جَمَعَ إِبْلِيسُ الشَّيَاطِينَ ، قَالَ لَهُمْ : مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ ؟ فَإِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ ، فَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْفَادِحَةُ ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي لا يَصْبِرُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ ، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ : أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ , فَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتِي عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ : فَأْتِ الإِبِلَ وَرُعَاتَهَا ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الإِبِلَ ، وَذَلِكَ حِينَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا , وَثَبَتَتْ فِي مَرَاعِيهَا ، فَلَمْ تَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ إِعْصَارٌ مِنْ نَارٍ تُنْفَخُ مِنْهَا أَرْوَاحُ السَّمُومِ ، لا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلا احْتَرَقَ ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْرِقُهَا وَرُعَاتَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا , فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا تَمَثَّلَ إِبْلِيسُ عَلَى قَعُودٍ مِنْهَا بِرَاعِيهَا ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّ أَيُّوبَ ، حَتَّى وَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي ، فَقَالَ : يَا أَيُّوبُ ، قَالَ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا الَّذِي صَنَعَ رَبُّكَ الَّذِي اخْتَرْتَ , وعَبْدتَ , وَوَحَّدْتَ بِإِبِلِكَ وَرُعَاتِهَا ؟ قَالَ أَيُّوبُ : إِنَّهَا مَالُهُ أَعَارَنِيهِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ إِذَا شَاءَ نَزَعَهُ ، وَقَدِيمًا مَا وَطَّنْتُ نَفْسِي وَمَالِي عَلَى الْفِنَاءِ ، قَالَ إِبْلِيسُ : وَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ وَرُعَاتُهَا ، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ شَيْءٍ مِنْهَا , وَمِنْ رُعَاتِهَا ، فَتَرَكْتُ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ ، وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَيْهَا يَتَعَجَّبُونَ ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا كَانَ أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا , وَمَا كَانَ إِلا فِي غُرُورٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمَنَعَ وَلِيَّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ لِيُشْمِتَ بِهِ عَدُوَّهُ , وَلِيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ ، قَالَ أَيُّوبُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ حِينَ أَعْطَانِي , وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي ، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي ، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّهِ ، لَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرَحَ حِينَ أَعَارَكَ اللَّهُ , وَتَجْزَعَ حِينَ قَبَضَ عَارِيَتَهُ ، اللَّهُ أَوْلَى بِكَ وَبِمَا أَعْطَاكَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ مَلَكِ الأَرْوَاحِ ، فَأجري فِيكَ , وَصِرْتَ شَهِيدًا ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا , فَأَخَّرَكَ مِنْ أَجَلِهِ , فَعَرَّاكَ اللَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ , وَخَلَّصَكَ مِنَ الْبَلاءِ , كَمَا يُخَلَّصُ الزُّوَانُ مِنَ الْقَمْحِ الْخَلاصِ . ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ خَاسِئًا ذَلِيلا ، فَقَالَ لَهُمْ : مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ ، فَإِنِّي لَمْ أُكَلِّمْ قَلْبَهُ ؟ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ : عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتَ صِحْتُ صَوْتًا لا يَسْمَعْهُ ذُو رُوحٍ إِلا خَرَجَتْ مُهْجَةُ نَفْسِهِ . قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ : فَأْتِ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا ، حَتَّى إِذَا وَسَطَهَا صَاحَ صَوْتًا جَثَمَتْ أَمْوَاتًا مِنْ عِنْدِ آخِرِهَا وَرِعَاؤُهَا . ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلا بِقَهْرَمَانِ الرِّعَاءِ ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَيُّوبَ وَجَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْلَ الأَوَّلَ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الأَوَّلَ . ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ ، فَإِنِّي لَمْ أكَلِّمْ قَلْبَ أَيُّوبَ ؟ فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ : عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفًا تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى لا أُبْقِيَ شَيْئًا . فقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ : فَأْتِ الْفَدَّادِينَ وَالْحَرْثَ ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ ، وَذَلِكَ حِينَ قَرَّبُوا الْفَدَّادِينَ , وَأَنْشَئُوا فِي الْحَرْثِ ، وَالأُتُنُ وَأَوْلادُهَا رُتُوعٌ ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلا بِقَهْرَمَانِ الْحَرْثِ ، حَتَّى جَاءَ أَيُّوبَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ الأَوَّلِ ، ورد عليه أيوب مثل رده الأول ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّهُ قَدْ أَفْنَى مَالَهُ , وَلَمْ يُنْجِحْ مِنْهُ ، صَعِدَ سَرِيعًا ، حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ الْمَوْقِفَ الَّذِي كَانَ يَقِفُهُ , فَقَالَ : يَا إِلَهِي ، إِنَّ أَيُّوبَ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ ، فَأَنْتَ مُعْطِيهِ الْمَالَ ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ ؟ فَإِنَّهَا الْفِتْنَةُ الْمُضِلَّةُ ، وَالْمُصِيبَةُ الَّتِي لا تَقُومُ لَهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ ، وَلا يَقْوَى عَلَيْهَا صَبْرُهُمْ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : انْطَلَقَ ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلا سُلْطَانَ لَكَ عَلَى قَلْبِهِ وَلا جَسَدِهِ , وَلا عَلَى عَقْلِهِ ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا ، حَتَّى جَاءَ بَنِي أَيُّوبَ وَهُمْ فِي قَصْرِهِمْ ، فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حَتَّى تَدَاعَى مِنْ قَوَاعِدِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَاطِحُ جُدُرَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، وَيَرْمِيهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ ، حَتَّى إِذَا مَثَّلَ بِهِمْ كُلَّ مُثْلَةٍ ، رَفَعَ بِهِمُ الْقَصْرَ ، حَتَّى إِذَا أَقَلَّهُ بِهِمْ , فصَارُوا فِيهِ مُنَكَّسِينَ ، وانْطَلَقَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلا بِالْمُعَلِّمِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ ، وَهُوَ جَرِيحٌ ، مَشْدُوخُ الْوَجْهِ يَسِيلُ دَمُهُ , وَدِمَاغُهُ مُتَغَيِّرًا لا يَكَادُ يُعْرَفُ مِنْ شِدَّةِ التَّغَيُّرِ وَالْمُثْلَةِ الَّتِي جَاءَ مُتَمَثِّلا فِيهَا . فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَيُّوبُ هَالَهُ وَحَزِنَ , وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، وَقَالَ لَهُ : يَا أَيُّوبُ ، لَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَفْلَتُّ مِنْ حَيْثُ أَفْلَتُّ , وَالَّذِي رَمَانَا بِهِ مِنْ فَوْقِنَا وَمِنْ تَحْتِنَا ، وَلَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ عُذِّبُوا , وَكَيْفَ مُثِّلَ بِهِمْ , وَكَيْفَ قُلِبُوا فَكَانُوا مُنَكَّسِينَ عَلَى رُءُوسِهِمْ , تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ , وَدِمَاغُهُمْ مِنْ أُنُوفِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ , وَتَقْطُرُ مِنْ أَشْفَارِهِمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ شُقَّتْ بُطُونُهُمْ , فَتَنَاثَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ قُذِفُوا بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ يَشْدَخُ دِمَاغَهُمْ ، وَكَيْفَ دَقَّ بالْخَشَبِ عِظَامَهُمْ , وَخَرَقَ جُلُودَهُمْ , وَقَطَعَ عَصَبَهُمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْعَصْبِ عُرْيَانًا ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْعِظَامَ مُتَهَشِّمَةً فِي الأَجْوَافِ ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْوُجُوهَ مَشْدُوخَةً ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْجُدُرَ تَنَاطَحُ عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ رَأَيْتَ مَا رَأَيْتُ ، لقُطِّعَ قَلْبُكَ ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَنَحْوَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ فَبَكَى ، وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ ، فَاغْتَنَمَ إِبْلِيسُ الْفُرْصَةَ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَصَعِدَ سَرِيعًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ جَزَعِ أَيُّوبَ مَسْرُورًا بِهِ . ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ أَنْ فَاءَ وَأَبْصَرَ ، فَاسْتَغْفَرَ ، وَصَعِدَ قُرَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ بِتَوْبَةٍ مِنْهُ ، فَبَدَرُوا إِبْلِيسَ إِلَى اللَّهِ ، فَوَجَدُوهُ قَدْ عَلِمَ بِالَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ تَوْبَةِ أَيُّوبَ ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ خَازِيًا ذَلِيلا ، فَقَالَ : يَا إِلَهِي ، إِنَّمَا هَوَّنَ عَلَى أَيُّوبَ خَطَرُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ , فَأَنْتَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ ؟ فَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ لَئِنْ ابْتَلَيْتَهُ فِي جَسَدِهِ لَيَنْسَيَنَّكَ ، وَلَيَكْفُرَنَّ بِكَ ، وَلَيَجْحَدَنَّكَ نِعْمَتَكَ ، قَالَ اللَّهُ : انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى لِسَانِهِ , وَلا عَلَى قَلْبِهِ , وَلا عَلَى عَقْلِهِ . فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا ، فَوَجَدَ أَيُّوبَ سَاجِدًا ، فَعَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ ، فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ فِي مَوْضِعِ وَجْهِهِ ، فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ ، فَتَرَهَّلَ ، وَنَبَتَتْ بِهِ ثَآلِيلُ مِثْلُ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ ، وَوَقَعَتْ فِيهِ حِكَّةٌ لا يَمْلِكُهَا ، فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ كُلُّهَا ، ثُمَّ حَكَّ بِالْعِظَامِ ، وَحَكَّ بِالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ , وَبِقِطَعِ الْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهُ حَتَّى نَفِدَ لَحْمُهُ , وَتَقَطَّعَ . وَلَمَّا نَغِلَ جِلْدُ أَيُّوبَ وَتَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ ، أَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ، فَجَعَلُوهُ عَلَى تَلٍّ , وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا . وَرَفَضَهُ خَلْقُ اللَّهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ ، فَكَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَيَلْزَمُهُ . وَكَانَ ثَلاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اتَّبَعُوهُ عَلَى دِينِهِ , فَلَمَّا رَأَوْا مَا ابْتَلاهُ اللَّهُ بِهِ رَفَضُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُ وَاتَّهَمُوهُ ، يُقَالُ لأَحَدِهِمْ : بَلْدَدُ ، وَأَلِيفَزُ ، وَصَافِرُ . قَالَ : فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الثَّلاثَةُ وَهُوَ فِي بَلائِهِ ، فَبَكَّتُوهُ , فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُمْ أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ ، فَقَالَ أَيُّوبُ عليه السلام : رَبِّ لأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي ؟ لَوْ كُنْتَ إِذْ كَرِهْتَنِي فِي الْخَيْرِ تَرَكْتَنِي فَلَمْ تَخْلُقْنِي ، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً أَلْقَتْنِي أُمِّي ، وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ فِي بَطْنِهَا , فَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا وَلَمْ تَعْرِفْنِي ، مَا الذَّنْبُ الَّذِي أَذْنَبْتُ لَمْ يُذْنِبْهُ أَحَدٌ غَيْرِي ؟ وَمَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلْتُ فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي ؟ لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَأَلْحَقْتَنِي بِآبَائِي , فَالْمَوْتُ كَانَ أَجْمَلَ بِي ، فَأُسْوَةً لِي بِالسَّلاطِينِ الَّذِينَ صُفَّتْ مِنْ دُونِهِمُ الْجُيُوشُ ، يَضْرِبُونَ عَنْهُمْ بِالسُّيُوفِ ، بُخْلا بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ , وَحِرْصًا عَلَى بَقَائِهِمْ ، أَصْبَحُوا فِي الْقُبُورِ جَاثِمِينَ ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيُخَلَّدُونَ . وَأُسْوَةً لِي بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ كَنَزُوا الْكُنُوزَ ، وَطَمَرُوا الْمَطَامِيرَ ، وَجَمعُوا الْجُمُوعَ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سُيُخَلَّدُونَ . وَأُسْوَةً لِي بِالْجَبَّارِينَ الَّذِينَ بَنَوا الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ ، وَعَاشُوا فِيهَا الْمِئِينَ مِنَ السِّنِينَ ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ خَرَابًا ، مَأْوًى لِلْوُحُوشِ , وَمَبِيتًا لِلشَّيَاطِينِ . قَالَ أَلِيفَزُ التَّيْمَانِيُّ : قَدْ أَعْيَانَا أَمْرُكَ يَا أَيُّوبُ ، إِنْ كَلَّمْنَاكَ فَمَا نَرْجُو لِلْكلامِ مِنْكَ مَوْضِعًا ، وَإِنْ نَسَكُتْ عَنْكَ مَعَ الَّذِي نَرَى فِيكَ مِنَ الْبَلاءِ ، فَذَلِكَ عَلَيْنَا . قَدْ كُنَّا نَرَى مِنْ أَعْمَالِكَ أَعْمَالا كُنَّا نَرْجُو لَكَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ غَيْرَ مَا رَأَيْنَا ، فَإِنَّمَا يَحْصُدُ امْرُؤٌ مَا زَرَعَ , وَيُجْزَى بِمَا عَمِلَ . أَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ الَّذِي لا يُقَدَّرُ قَدْرُ عَظَمَتِهِ , وَلا يُحْصَى عَدَدُ نِعَمِهِ ، الَّذِي يُنَزِّلُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَيُحْيِيِ بِهِ الْمَيِّتَ , وَيَرْفَعُ بِهِ الْخَافِضَ , وَيُقَوِّي بِهِ الضَّعِيفَ ، الَّذِي تَضِلُّ حِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ عِنْدَ حِكْمَتِهِ , وَعِلْمُ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ عِلْمِهِ , حَتَّى تُرَاهُمْ مِنَ الْعِيِّ فِي ظُلْمَةٍ يَمُوجُونَ ، أَنَّ مَنْ رَجَا مَعُونَةَ اللَّهِ هُوَ الْقَوِيُّ ، وَأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَكْفِيُّ ، هُوَ الَّذِي يَكْسِرُ وَيَجْبُرُ , وَيَجْرَحُ وَيُدَاوِي ، قَالَ أَيُّوبُ : لِذَلِكَ سَكَتُّ فَعَضَضْتُ عَلَى لِسَانِي , وَوَضَعْتُ لِسُوءِ الْخِدْمَةِ رَأْسِي , لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ عُقُوبَتَهُ غَيَّرَتْ نُورَ وَجْهِي ، وَأَنَّ قُوَّتَهُ نَزَعَتْ قُوَّةَ جَسَدِي ، فَأَنَا عَبْدُهُ ، مَا قَضَى عَلَيَّ أَصَابَنِي ، وَلا قُوَّةَ لِي إِلا مَا حَمَلَ عَلَيَّ , لَوْ كَانَتْ عِظَامِي مِنْ حَدِيدٍ , وَجَسَدِي مِنْ نُحَاسِ , وَقَلْبِي مِنْ حِجَارَةٍ ، لَمْ أُطِقْ هَذَا الأَمْرَ ، وَلَكِنْ هُوَ ابْتَلانِي , وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَنِّي , أَتَيْتُمُونِي غِضَابًا ، رَهِبْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُسْتَرْهَبُوا ، وَبَكَيْتُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُضْرَبُوا ، كَيْفَ بِي لَوْ قُلْتُ لَكُمْ : تَصَدَّقُوا عَنِّي بِأَمْوَالِكُمْ , لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي ، أَوْ قَرِّبُوا عَنِّي قُرْبَانًا , لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنِّي , وَيَرْضَى عَنِّي ؟ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ تَمَنَّيْتُ النَّوْمَ رَجَاءَ أَنْ أَسْتَرِيحَ ، فَإِذَا نِمْتُ كَادَتْ تَجُودُ نَفْسِي . تَقَطَّعَتْ أَصَابِعِي ، فَإِنِّي لأَرْفَعُ اللُّقْمَةَ مِنَ الطَّعَامِ بِيَدَيَّ جَمِيعًا , فَمَا تَبْلُغَانِ فَمِي إِلا عَلَى الْجَهْدِ مِنِّي ، تَسَاقَطَتْ لَهَوَاتِي , وَنُخِرَ رَأْسِي ، فَمَا بَيْنَ أُذُنَيَّ مِنْ سَدَادٍ ، حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَتُرَى مِنَ الأُخْرَى ، وَإِنَّ دِمَاغِي لَيَسِيلُ مِنْ فَمِي . تَسَاقَطَ شَعْرُ عَيْنِي ، فَكَأَنَّمَا حُرِّقَ بِالنَّارِ وَجْهِي ، وَحَدَقَتَايَ هُمَا مُتَدَلِّيَتَانِ عَلَى خَدِّي ، وَرِمَ لِسَانِي , حَتَّى مَلأَ في ، فَمَا أُدْخِلُ فِيهِ طَعَامًا إِلا غَصَّنِي ، وَوَرِمَتْ شَفَتَايَ , حَتَّى غَطَّتِ الْعُلْيَا أَنْفِي , وَالسُّفْلَى ذَقْنِي . تَقَطَّعَتْ أَمْعَائِي فِي بَطْنِي ، فَإِنِّي لأُدْخِلُ الطَّعَامَ فَيَخْرُجُ كَمَا دَخَلَ ، مَا أُحِسُّهُ , وَلا يَنْفَعُنِي . ذَهَبَتْ قُوَّةُ رِجْلَيَّ ، فَكَأَنَّهُمَا قِرْبَتَا مَاءٍ مُلِئَتَا ، لا أُطِيقُ حَمْلَهُمَا . أَحْمِلُ لِحَافِي بِيَدِي ، وَأَسْنَانِي , فَمَا أُطِيقُ حَمْلَهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ مَعِي غَيْرِي . ذَهَبَ الْمَالُ , فَصِرْتُ أَسْأَلُ بِكَفِّي ، فَيُطْعِمُنِي مَنْ كُنْتُ أَعُولُهُ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ ، فَيَمُنُّهَا عَلَيَّ , وَيُعَيِّرُنِي . هَلَكَ بَنِيَّ وَبَنَاتِي ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَعَانَنِي عَلَى بَلائِي وَنَفَعَنِي . وَلَيْسَ الْعَذَابُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا ، إِنَّهُ يَزُولُ عَنْ أَهْلِهَا ، وَيَمُوتُونَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الدَّارِ الَّتِي لا يَمُوتُ أَهْلُهَا ، وَلا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ مَنَازِلِهِمْ ، السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ هُنَالِكَ , وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيهَا . قَالَ بَلْدَدُ : كَيْفَ يَقُومُ لِسَانُكَ بِهَذَا الْقَوْلِ , وَكَيْفَ تُفْصِحُ بِهِ ؟ أَتَقُولُ إِنَّ الْعَدْلَ يَجُورُ ، أَمْ تَقُولُ إِنَّ الْقَوِيَّ يَضْعُفُ ؟ ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ، وَتَضَرَّعْ إِلَى رَبِّكَ , عَسَى أَنْ يَرْحَمَكَ , وَيَتَجَاوَزَ عَنْ ذَنْبِكَ ، وَعَسَى إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا لَكَ ذُخْرًا فِي آخِرَتِكَ ، وَإِنْ كَانَ قَلْبُكَ قَدْ قَسَا , فَإِنَّ قَوْلَنَا لَنْ يَنْفَعَكَ ، وَلَنْ يَأْخُذَ فِيكَ , هَيْهَاتَ أَنْ تَنْبُتَ الآجَامُ فِي الْمَفَاوِزِ ، وَهَيْهَاتِ أَنْ يَنْبُتَ الْبَرْدِيُّ فِي الْفَلاةِ ، مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الضَّعِيفِ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَمْنَعَهُ ، وَمَنْ جَحَدَ الْحَقَّ كَيْفَ يَرْجُوُ أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ ؟ قَالَ أَيُّوبُ : إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ ، لَنْ يَفْلُجَ الْعَبْدُ عَلَى رَبِّهِ , وَلا يُطِيقُ أَنْ يُخَاصِمَهُ ، فَأَيُّ كَلامٍ لِي مَعَهُ وَإِنْ كَانَ إِلَيَّ الْقُوَّةُ ؟ هُوَ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ فَأَقَامَهَا وَحْدَهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَكْشُطُهَا إِذَا شَاءَ فَتَنْطَوِي لَهُ ، وَهُوَ الَّذِي سَطَحَ الأَرْضَ فَدَحَاهَا وَحْدَهُ ، وَنَصَبَ فِيهَا الْجِبَالَ الرَّاسِيَاتِ ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُزَلْزِلُهَا مِنْ أُصُولِهَا حَتَّى تَعُودَ أَسَافِلُهَا أَعَالِيَهَا , وَإِنْ كَانَ فِيَّ الْكَلامُ ، فَأَيُّ كَلامٍ لِي مَعَهُ ؟ مَنْ خَلَقَ عَرْشَه الْعَظِيمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَحَشَاهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ ، فَوَسَّعَهُ فِي سَعَةٍ وَاسِعَةٍ ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْبِحَارَ , فَفَهِمَتْ قَوْلَهُ , وَأَمَرَهَا فَلَمْ تَعْدُ أَمْرَهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَفْقَه الْحِيتَانَ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ دَابَّةٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُكَلِّمُ الْمَوْتَى فَيُحْيِيهِمْ قَوْلُهُ ، وَيُكَلِّمُ الْحِجَارَةَ فَتَفْهَمُه , وَيَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ . قَالَ أَليفَزُ : عَظِيمٌ مَا تَقُولُ يَا أَيُّوبُ ، إِنَّ الْجُلُودَ لَتَقْشَعِرُّ مِنْ ذِكْرِ مَا تَقُولُ ، إِنَّمَا أَصَابَكَ مَا أَصَابَكَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ أَذْنَبْتَهُ ، مِثْلُ هَذِهِ الْحِدَّةِ , وَهَذَا الْقَوْلِ أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ , عَظُمَتْ خَطِيئَتُكَ ، وَكَثُرَ طُلابُكَ ، وَغَصَبْتَ أَهْلَ الأَمْوَالِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، فَلَبِسْتَ وَهُمْ عُرَاةٌ ، وَأَكَلْتَ وَهُمْ جِيَاعٌ ، وَحَبَسْتَ عَنِ الضَّعِيفِ بَابَكَ ، وَعَنِ الْجَائِعِ طَعَامَكَ ، وَعَنْ الْمُحْتَاجِ مَعْرُوفَكَ ، وَأَسْرَرْتَ ذَلِكَ , وَأَخْفَيْتَهُ فِي بَيْتِكَ ، وَأَظْهَرْتَ أَعْمَالا كُنَّا نَرَاكَ تَعْمَلُهَا ، فَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ لا يَجْزِيكَ إِلا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْكَ ، وَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ لا يَطَّلِعُ عَلَى مَا غَيَّبْتَ فِي بَيْتِكَ ، وَكَيْفَ لا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا غَيَّبَتِ الأَرْضُونَ , وَمَا تَحْتَ الظُّلُمَاتِ وَالْهَوَاءِ ؟ قَالَ أَيُّوبُ عليه السلام : إِنْ تَكَلَّمْتُ لَمْ يَنْفَعْنِي الْكَلامُ ، وَإِنْ سَكَتُّ لَمْ تَعْذِرُونِي ، قَدْ وَقَعَ عَلَيَّ كَيْدِي ، وَأَسْخَطْتُ رَبِّي بِخَطِيئَتِي ، وَأَشْمَتُّ أَعْدَائِي ، وَأَمْكَنْتُهُمْ مِنْ عُنُقِي ، وَجَعَلْتَنِي لِلْبَلاءِ غَرَضًا ، وَجَعَلْتَنِي لِلْفِتْنَةِ نُصُبًا , لَمْ تَنْفِسْنِي مَعَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ أَتْبَعَنِي بِبَلاءٍ عَلَى إِثْرِ بَلاءٍ . أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا ، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا ، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا ، وَلِلأَرْمَلَةِ قَيِّمًا ؟ مَا رَأَيْتُ غَرِيبًا إِلا كُنْتُ لَهُ دَارًا مَكَانَ دَارِهِ , وَقَرَارًا مَكَانَ قَرَارِهِ ، وَلا رَأَيْتُ مِسْكِينًا إِلا كُنْتُ لَهُ مَالا مَكَانَ مَالِهِ , وَأَهْلا مَكَانَ أَهْلِهِ ، وَمَا رَأَيْتُ يَتِيمًا إِلا كُنْتُ لَهُ أَبًا مَكَانَ أَبِيهِ ، وَمَا رَأَيْتُ أَيِّمًا إِلا كُنْتُ لَهَا قَيِّمًا تَرْضَى قِيَامَهُ . وَأَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ ، إِنْ أَحْسَنْتُ لَمْ يَكُنْ لِي كَلامٌ بِإِحْسَانٍ ؛ لأَنَّ الْمَنَّ لِرَبِّي وَلَيْسَ لِي ، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِهِ عُقُوبَتِي , وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ بَلاءٌ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ ، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي ؟ قَالَ أَلِيفَزُ : أَتُحَاجُّ اللَّهَ يَا أَيُّوبُ فِي أَمْرِهِ ، أَمْ تُرِيدُ أَنْ تُنَاصِفَهُ وَأَنْتَ خَاطِئٌ ، أَوْ تُبَرِّئُهَا وَأَنْتَ غَيْرُ بَرِيءٍ ؟ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَأَحْصَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ ، فَكَيْفَ لا يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ ، وَكَيْفَ لا يَعْلَمُ مَا عَمِلْتَ فَيَجْزِيَكَ بِهِ ؟ وَضَعَ اللَّهُ مَلائِكَتَه صُفُوفًا حَوْلَ عَرْشِهِ , وَعَلَى أَرْجَاءِ سَمَوَاتِهِ ، ثُمَّ احْتَجَبَ بِالنُّورِ ، فَأَبْصَارُهُمْ عَنْهُ كَلِيلَةٌ ، وَقُوَّتُهُمْ عَنْهُ ضَعِيفَةٌ ، وَعِزُّهُمْ عَنْهُ ذَلِيلٌ ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنْ لَوْ خَاصَمَكَ وَأَدْلَى إِلَى الْحُكْمِ مَعَكَ ، وَهَلْ تَرَاهُ فَتُنَاصِفَهُ ؟ أَمْ هَلْ تَسْمَعُهُ فَتُحَاوِرَهُ ؟ قَدْ عَرَفْنَا فِيكَ قَضَاءَهُ ، إِنَّهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَفِعَ وَضَعَهُ ، وَمَنِ اتَّضَعَ لَهُ رَفَعَهُ . قَالَ أَيُّوبُ : إِنْ أَهْلَكَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ فِي عَبْدِهِ , وَيَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ ؟ لا يَرُدُّ غَضَبَهُ شَيْءٌ إِلا رَحْمَتُهُ ، وَلا يَنْفَعُ عَبْدَهُ إِلا التَّضَرُّعُ لَهُ ، رَبِّ أَقْبِلْ عَلَيَّ بِرَحْمَتِكَ ، وَأَعْلِمْنِي مَا ذَنْبِي الَّذِي أَذْنَبْتُ ، أَوْ لأَيِّ شَيْءٍ صَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي ، وَجَعَلْتَنِي لَكَ مِثْلَ الْعَدُوِّ وَقَدْ كُنْتَ تُكْرِمُنِي ؟ لَيْسَ يَغِيبُ عَنْكَ شَيْءٌ , تُحْصِي قَطْرَ الأَمْطَارِ , وَوَرَقَ الأَشْجَارِ , وَذَرَّ التُّرَابِ ، أَصْبَحَ جِلْدِي كَالثَّوْبِ الْعَفِنِ ، بِأَيِّهِ أَمْسَكْتُ سَقَطَ فِي يَدِي ، فَهَبْ لِي قُرْبَانًا مِنْ عِنْدِكَ ، وَفَرَجًا مِنْ بَلائِي ، بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تَبْعَثُ مَوْتَى الْعِبَادِ , وَتَنْشُرُ بِهَا مَيْتَ الْبِلادِ ، وَلا تُهْلِكْنِي بِغَيْرِ أَنْ تُعْلِمَنِي مَا ذَنْبِي ، وَلا تُفْسِدْ عَمَلَ يَدَيْكَ وَإِنْ كُنْتَ غَنِيًّا عَنِّي , لَيْسَ يَنْبَغِي فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ ، وَلا فِي نِقْمَتِكَ عَجَلٌ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ ، وَإِنَّمَا يَعْجَلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ , وَلا تُذَكِّرْنِي خَطَئِي وَذُنُوبِي ، اذْكُرْ كَيْفَ خَلَقْتَنِي مِنْ طِينٍ , فَجُعِلْتُ مُضْغَةً ، ثُمَّ خَلَقْتَ الْمُضْغَةَ عِظَامًا ، وَكَسَوْتَ الْعِظَامَ لَحْمًا وَجِلْدًا ، وَجَعَلْتَ الْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ لِذَلِكَ قِوَامًا وَشِدَّةً ، وَرَبَّيْتَنِي صَغِيرًا ، وَرَزَقْتَنِي كَبِيرًا ، ثُمَّ حَفِظْتُ عَهْدَكَ , وَفَعَلْتُ أَمْرَكَ , فَإِنْ أَخْطَأْتُ فَبَيِّنْ لِي , وَلا تُهْلِكْنِي غَمًّا ، وَأَعْلِمْنِي ذَنْبِي ، فَإِنْ لَمْ أُرْضِكَ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ تُعَذِّبَنِي ، وَإِنْ كُنْتُ مِنْ بَيْنِ خَلْقِكَ تُحْصِي عَلَيَّ عَمَلِي ، وَأَسْتَغْفِرُكَ فَلا تَغْفِرْ لِي . إِنْ أَحْسَنْتُ لَمْ أَرْفَعْ رَأْسِي ، وَإِنْ أَسَأْتُ لَمْ تُبْلِعْنِي رِيقِي , وَلَمْ تُقِلْنِي عَثْرَتِي ، وَقَدْ تَرَى ضَعْفِي تَحْتَكَ , وَتَضَرُّعِيَ لَكَ ، فَلِمَ خَلَقْتَنِي ؟ أَوْ لِمَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي ؟ لَوْ كُنْتُ كَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ خَيْرًا لِي ، فَلَيْسَتِ الدُّنْيَا عِنْدِي بِخَطَرٍ لِغَضَبِكَ ، وَلَيْسَ جَسَدِي يَقُومُ بِعَذَابِكَ ، فَارْحَمْنِي , وَأَذِقْنِي طَعْمَ الْعَافِيَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَصِيرَ إِلَى ضِيقِ الْقَبْرِ , وَظُلْمَةِ الأَرْضِ , وَغمِّ الْمَوْتِ ، قَالَ صَافِرٌ : قَدْ تَكَلَّمْتَ يَا أَيُّوبُ وَمَا يُطِيقُ أَحَدٌ أَنْ يَحْبِسَ فَمَكَ , تَزْعُمُ أَنَّكَ بَرِيءٌ ، فَهَلْ يَنْفَعُكَ إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا وَعَلَيْكَ مَنْ يُحْصِي عَمَلَكَ ؟ وَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَكَ ذُنُوبَكَ ، هَلْ تَعْلَمُ سُمْكَ السَّمَاءِ كَمْ بُعْدُهُ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ عُمْقَ الْهَوَاءِ كَمْ بُعْدُهُ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ أَيُّ الأَرْضِ أَعْرَضُهَا ؟ أَمْ هل عِنْدَكَ لَهَا مِنْ مِقْدَارٍ تُقَدِّرُهَا بِهِ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ أَيُّ الْبَحْرِ أَعْمَقُهُ ؟ أَمْ هَلْ تَعْلَمُ بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْبِسُهُ ؟ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْعِلْمَ وَإِنْ كُنْتَ لا تَعْلَمُهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَهُوَ يُحْصِيهِ ، لَوْ تَرَكْتَ كَثْرَةَ الْحَدِيثِ , وَطَلَبْتَ إِلَى رَبِّكَ رَجَوْتُ أَنْ يَرْحَمَكَ ، فَبِذَلِكَ تَسْتَخْرِجُ رَحْمَتَهُ ، وَإِنْ كُنْتَ تُقِيمُ عَلَى خَطِيئَتِكَ , وَترْفَعُ إِلَى اللَّهِ يَدَيْكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنْتَ مُصِرٌّ عَلَى ذَنْبِكَ إِصْرَارَ الْمَاءِ الْجَارِي فِي صَبَبٍ لا يُسْتَطَاعُ إِحْبَاسُهُ ، فَعِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَاتِ إِلَى الرَّحْمَنِ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الأَشْرَارِ , وَتُظْلِمُ عُيُونُهُمْ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَرُّ بِنَجَاحِ حَوَائِجِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الشَّهَوَاتِ تَزَيُّنًا بِذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَتَقَدَّمُوا فِي التَّضَرُّعِ ، لِيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الرَّحْمَةَ حِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا ، وَهُمُ الَّذِينَ كَابَدُوا اللَّيْلَ , وَاعْتَزَلُوا الْفُرُشَ , وَانْتَظَرُوا الأَسْحَارَ . قَالَ أَيُّوبُ : أَنْتُمْ قَوْمٌ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ ، وَقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلا وَالرِّجَالُ يُوَقِّرُونَنِي ، وَأَنَا مَعْرُوفٌ حَقِّي ، مُنْتَصِفٌ مِنْ خَصْمِي ، قَاهِرٌ لِمَنْ هُوَ الْيَوْمَ يَقْهَرُنِي ، يَسْأَلُنِي عَنْ عِلْمِ غَيْبِ اللَّهِ لا أَعْلَمُهُ ، وَيَسْأَلُنِي ، فَلَعَمْرِي مَا نُصْحُ الأَخِ لأَخِيهِ حِينَ نَزَلَ بِهِ الْبَلاءُ كَذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ يَبْكِي مَعَهُ . وَإِنْ كُنْتَ جَادًّا , فَإِنَّ عَقْلِي يَقْصُرُ عَنِ الَّذِي تَسْأَلُنِي عَنْهُ ، فَسَلْ طَيْرَ السَّمَاءِ هَلْ تُخْبِرُكَ ؟ وَسَلْ وُحُوشَ الأَرْضِ هَلْ تَرْجِعُ إِلَيْكَ ؟ وَسَلْ سِبَاعَ الْبَرِيَّةِ هَلْ تُجِيبُكَ ؟ وَسَلْ حِيتَانَ الْبَحْرِ هَلْ تَصِفُ لَكَ كُلَّ مَا عَدَدْتَ ؟ تَعْلَمُ أَنَّ الله صَنَعَ هَذَا بِحِكْمَتِهِ , وَهَيَّأَهُ بِلُطْفِهِ . أَمَا يَعْلَمُ ابْنُ آدَمَ مِنَ الْكَلامِ مَا سَمِعَ بِأُذُنَيْهِ , وَمَا طَعِمَ بِفِيهِ , وَمَا شَمَّ بِأَنْفِهِ ؟ وَأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ ، لَهُ الْحِكْمَةُ وَالْجَبَرُوتُ , وَلَهُ الْعَظَمَةُ وَاللُّطْفُ , وَلَهُ الْجَلالُ وَالْقُدْرَةُ ؟ إِنْ أَفْسَد , فَمَنْ ذَا الَّذِي يُصْلِحُ ؟ وَإِنْ أَعْجَمَ , فَمَنْ ذَا الَّذِي يُفْصِحُ ؟ إِنْ نَظَرَ إِلَى الْبِحَارِ يَبِسَتْ مِنْ خَوْفِهِ ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا ابْتَلَعَتِ الأَرْضَ ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُهَا بِقُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي تَبْهَتُ الْمُلُوكُ عِنْدَ مُلْكِهِ ، وَتَطِيشُ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عَلْمِهِ ، وَتَعْيَا الْحُكَمَاءُ عِنْدَ حِكْمَتِهِ ، وَيَخْسَأُ الْمُبْطِلُونَ عِنْدَ سُلْطَانِهِ . هُوَ الَّذِي يُذَكِّرُ الْمَنْسِيَّ ، وَيُنَسِّي الْمَذْكُورَ ، وَيُجْرِي الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ . هَذَا عِلْمِي ، وَخَلْقُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ عَقْلِي ، وَعَظَمَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقْدُرَهَا مِثْلِي . قَالَ بِلْدَدُ : إِنَّ الْمُنَافِقَ يُجْزَى بِمَا أَسَرَّ مِنْ نِفَاقِهِ ، وَتَضِلُّ عَنْهُ الْعَلانِيَةُ الَّتِي خَادَعَ بِهَا ، وَيوكَلُ عَلَى الْجَزَاءِ بِهَا على الَّذِي عَمِلَهَا ، وَيَهْلِكُ ذِكْرُهُ مِنَ الدُّنْيَا , وَيُظْلِمُ نُورُهُ فِي الآخِرَةِ ، وَيُوحِشُ سَبِيلُهُ ، وَتُوقِعُهُ فِي الأُحْبُولَةِ سَرِيرَتُهُ ، وَيَنْقَطِعُ اسْمُهُ مِنَ الأَرْضِ ، فَلا ذِكْرَ له فِيهَا وَلا عُمْرَانَ ، لا يَرِثُهُ وَلَدٌ مُصْلِحُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلا يَبْقَى لَهُ أَصْلٌ يُعْرَفُ بِهِ ، وَيَبْهَتُ مَنْ يَرَاهُ ، وَتَقِفُ الأَشْعَارُ عِنْدَ ذِكْرِهِ ، قَالَ أَيُّوبُ : إِنْ أَكُنْ غَوِيًّا فَعَلَيَّ غَوَايَ ، وَإِنْ أَكُنْ بَرِيًّا فَأَيُّ مَنَعَةٍ عِنْدِي ؟ إِنْ صَرَخْتُ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُصْرِخُنِي ؟ وَإِنْ سَكَتُّ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَعْذِرُنِي ؟ ذَهَبَ رَجَائِي ، وَانْقَضَتْ أَحْلامِي ، وَتَنَكَّرَتْ لِي مَعَارِفِي , دَعَوْتُ غُلامِي فَلَمْ يُجِبْنِي ، وَتَضَرَّعْتُ لأَمَتِي فَلَمْ تَرْحَمْنِي ، وَقَعَ عَلَيَّ الْبَلاءُ فَرَفَضُونِي ، أَنْتُمْ كُنْتُمْ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ مُصِيبَتِي . انْظُرُوا تَبْهَتُوا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي فِي جَسَدِي ، أَمَا سَمِعْتُمْ بِمَا أَصَابَنِي ؟ وَمَا شَغَلَكُمْ عَنِّي مَا رَأَيْتُمْ بِي ؟ لَوْ كَانَ عَبْدٌ يُخَاصِمُ رَبَّهُ ، رَجَوْتُ أَنْ أَتَغَلَّبَ عِنْدَ الْحَكَمِ ، وَلَكِنَّ لِي رَبًّا جَبَّارًا تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ ، وَأَلْقَانِي هَا هُنَا ، وَهُنْتُ عَلَيْهِ ، لا هُوَ عَذَرَنِي بِعُذْرِي ، وَلا هُوَ أَدْنَانِي فَأُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِي . يَسْمَعُنِي وَلا أَسْمَعُهُ , وَيَرَانِي وَلا أَرَاهُ ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِي ، وَلَوْ تَجَلَّى لِي لَذَابَتْ كُلْيَتَايَ ، وَصُعِقَ رُوحِي ، وَلَوْ نَفَّسَنِي فَأَتَكَلَّمَ بِمِلْءِ في , وَنَزَعَ الْهَيْبَةَ مِنِّي ، عَلِمْتُ بِأَيِّ ذَنْبٍ عَذَّبَنِي ، نُودِيَ فَقِيلَ : يَا أَيُّوبُ ، قَالَ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : أَنَا هَذَا , قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ ، فَقُمْ فَاشْدُدْ إِزَارَكَ ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ ، فَإِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلا جَبَّارٌ مِثْلِي ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلا مَنْ يَجْعَلُ الزِّمَامَ فِي فَمِ الأَسَدِ ، وَالسِّخَالَ فِي فَمِ الْعَنْقَاءِ ، وَاللِّجامَ فِي فَمِ التِّنِّينِ ، وَيَكِيلُ مِكْيَالا مِنَ النُّورِ ، وَيَزِنُ مِثْقَالا مِنَ الرِّيحِ ، وَيَصُرُّ صُرَّةً مِنَ الشَّمْسِ ، وَيَرُدُّ أَمْسِ لِغَدٍ . لَقَدْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ أَمْرًا مَا يَبْلُغُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ ، وَلَوْ كُنْتَ إِذْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ ذَلِكَ , وَدَعَتْكَ إِلَيْهِ ، تَذَكَّرْتَ أَيَّ مَرَامٍ رَامَتْ بِكَ . أَرَدْتَ أَنْ تُخَاصِمَنِي بِغَيِّكَ ، أَمْ أَرَدْتَ أَنْ تُحَاجَّنِي بِخَطَئِكَ ، أَمْ أَرَدْتَ أَنْ تُكَاثِرَنِي بِضَعْفِكَ ؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الأَرْضَ فَوَضَعْتُهَا عَلَى أَسَاسِهَا ؟ هَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا ؟ أَمْ كُنْتَ مَعِي تَمُرُّ بِأَطْرَافِهَا ؟ أَمْ تَعْلَمُ مَا بُعْدُ زَوَايَاهَا ؟ أَمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَضَعْتُ أَكْنَافَهَا ؟ أَبِطَاعَتِكَ حَمَلَ الْمَاءُ الأَرْضَ ، أَمْ بِحِكْمَتِكَ كَانَتِ الأَرْضُ لِلْمَاءِ غِطَاءً ؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ , لا بِعَلائِقَ ثَبَتَتْ مِنْ فَوْقِهَا , وَلا يَحْمِلُهَا دَعَائِمُ مِنْ تَحْتِهَا , هَلْ يَبْلُغُ مِنْ حِكْمَتِكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا ، أَوْ تُسَيِّرَ نُجُومَهَا ، أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا ؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ سَجَرْتُ الْبِحَارَ , وَأَنْبَعْتُ الأَنْهَارَ ؟ أَقُدْرَتُكَ حَبَسَتْ أَمْوَاجَ الْبِحَارِ عَلَى حُدُودِهَا ، أَمْ قُدْرَتُكَ فَتَحَتِ الأَرْحَامَ حِينَ بَلَغَتْ مُدَّتَهَا ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ . وَنَصَبْتُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ ؟ هَلْ لَكَ مِنْ ذِرَاعٍ تُطِيقُ حَمْلَهَا ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي كَمْ مِنْ مِثْقَالٍ فِيهَا ؟ أَمْ أَيْنَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ؟ هَلْ تَدْرِي أُمٌّ تَلِدُهُ أَوْ أَبٌ تَوَلَّدُهُ ؟ أَحِكْمَتُكَ أَحْصَتِ الْقَطْرَ , وَقَسَّمَتِ الأَرْزَاقَ ، أَمْ قُدْرَتُكَ تُثِيرُ السَّحَابَ , وَتُغَشِّيهِ الْمَاءَ ؟ هَلْ تَدْرِي مَا أَصْوَاتُ الرُّعُودِ ؟ أَمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ لَهَبُ الْبُرُوقِ ؟ هَلْ رَأَيْتَ عُمْقَ الْبَحْرِ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مَا بُعْدُ الْهَوَاءِ ؟ أَمْ هَلْ خَزَنْتَ أَرْوَاحَ الأَمْوَاتِ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خِزَانَةُ الثَّلْجِ ، أَوْ أَيْنَ خَزَائِنُ الْبَرَدِ ، أَمْ أَيْنَ جِبَالُ الْبَرَدِ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خِزَانَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ , وَأَيْنَ خِزَانَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ , وَأَيْنَ طَرِيقُ النُّورِ ، وَبِأَيِّ لُغَةٍ تَتَكَلَّمُ الأَشْجَارُ ، وَأَيْنَ خِزَانَةُ الرِّيحِ ، وكَيْفَ تَحْبِسُهُ الأَغْلاقُ ، وَمَنْ جَعَلَ الْعُقُولَ فِي أَجْوَافِ الرِّجَالِ ، وَمَنْ شَقَّ الأَسْمَاعَ وَالأَبْصَارَ ، وَمَنْ ذَلَّتِ الْمَلائِكَةُ لِمُلْكِهِ , وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ بِجَبَرُوتِهِ , وَقَسَّمَ أَرْزَاقَ الدَّوَابِّ بِحِكْمَتِهِ ؟ وَمَنْ قَسَّمَ لِلأُسْدِ أَرْزَاقَهَا , وَعَرَّفَ الطَّيْرَ مَعَايِشَهَا , وَعَطَفَهَا عَلَى أَفْرَاخِهَا ؟ مَنْ أَعْتَقَ الْوَحْشَ مِنَ الْخِدْمَةِ ، وَجَعَلَ مَسَاكِنَهَا الْبَرِّيَّةَ , لا تَسْتَأْنِسُ بِالأَصْوَاتِ , وَلا تَهَابُ السَّلاطِينَ ؟ أَمِنْ حِكْمَتِكَ تَفَرَّعَتْ أَفْرَاخُ الطَّيْرِ , وَأَوْلادُ الدَّوَابِّ لأُمَّهَاتِهَا ؟ أَمْ مِنْ حِكْمَتِكَ عَطَفَتْ أُمَّهَاتُهَا عَلَيْهَا ، حَتَّى أَخْرَجَتْ لَهَا الطَّعَامَ مِنْ بُطُونِهَا ، وَآثَرَتْهَا بِالْعَيْشِ عَلَى نُفُوسِهَا ؟ أَمْ مِنْ حِكْمَتِكَ يُبْصِرُ الْعُقَابُ الصيد البصر البعيد ، فَأَصْبَحَ فِي أَمَاكِنِ الْقَتْلَى ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ بَهْمُوتَ ، مَكَانهُ فِي مُنْقَطَعِ التُّرَابِ ، وَالْوَتِينَانِ يَحْمِلانِ الْجِبَالَ وَالْقُرَى وَالْعُمْرَانَ ، آذَانُهُمَا كَأَنَّهَا شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ الطِّوَالُ ، رُءُوسُهُمَا كَأَنَّهَا آكَامُ الْجِبَالِ ، وَعُرُوقُ أَفْخَاذِهِمَا كَأَنَّهَا أَوْتَادُ الْحَدِيدِ ، وَكَأَنَّ جُلُودَهُمَا فِلَقُ الصُّخُورِ ، وَعِظَامُهُمَا كَأَنَّهَا عُمُدُ النُّحَاسِ . هُمَا رَأْسَا خَلْقِي الَّذِينَ خَلَقْتُ لِلْقِتَالِ ، أَأَنْتَ مَلأْتَ جُلُودَهُمَا لَحْمًا ؟ أَمْ أَنْتَ مَلأْتَ رُءُوسَهُمَا دِمَاغًا ؟ أَمْ هَلْ لَكَ فِي خَلْقِهِمَا مِنْ شِرْكٍ ؟ أَمْ لَكَ بِالْقُوَّةِ الَّتِي عَمَلَتْهُمَا يَدَانِ ؟ أَوْ هَلْ يَبْلُغُ مِنْ قُوَّتِكَ أَنْ تَخْطِمَ عَلَى أُنُوفِهِمَا ، أَوْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى رُءُوسِهِمَا ، أَوْ تَقْعُدَ لَهُمَا عَلَى طَرِيقٍ فَتَحْبِسَهُمَا ، أَوْ تَصُدَّهُمَا عَنْ قُوَّتِهِمَا ؟ أَيْنَ أَنْتَ يَوْمَ خَلَقْتُ التِّنِّينَ , رِزْقُهُ فِي الْبَحْرِ , وَمَسْكَنُهُ فِي السَّحَابِ ؟ عَيْنَاهُ تُوقَدَانِ نَارًا ، وَمَنْخِرَاهُ يَثُورَانِ دُخَانًا ، أُذُنَاهُ مِثْلُ قَوْسِ السَّحَابِ ، يَثُورُ مِنْهُمَا لَهَبٌ كَأَنَّهُ إِعْصَارُ الْعَجَاجِ ، جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ , وَنَفَسُهُ يَلْتَهِبُ ، وَزَبَدُهُ جَمْرٌ أَمْثَالُ الصُّخُورِ ، وَكَأَنَّ صَرِيفَ أَسْنَانِهِ أصْواتُ الصَّوَاعِقِ ، وَكَأَنَّ نَظَرَ عَيْنَيْهِ لَهَبُ الْبَرْقِ ، أَسْرَارٌ لا تَدْخُلُه الْهُمُومُ ، تَمُرُّ بِهِ الْجُيُوشُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ ، لا يُفْزِعُهُ شَيْءٌ , لَيْسَ فِيهِ مِفْصَلٌ , الْحَدِيدُ عِنْدَهُ مِثْلُ التِّبْنِ ، وَالنُّحَاسُ عِنْدَهُ مِثْلُ الْخُيُوطِ ، لا يَفْزَعُ مِنَ النُّشَّابِ ، وَلا يُحِسُّ وَقْعَ الصُّخُورِ عَلَى جَسَدِهِ ، وَيَضْحَكُ مِنَ النَّيَازِكِ ، وَيَسِيرُ فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ ، وَيَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ يَمُرُّ بِهِ ، مَلكُ الْوحُوشِ ، وَإِيَّاهُ آثَرْتُ بِالْقُوَّةِ عَلَى خَلْقِي , هَلْ أَنْتَ آخِذُهُ بِأُحْبُولَتِكَ فَرَابِطُهُ بِلِسَانِهِ , أَوْ وَاضِعٌ اللِّجَامَ فِي شِدْقِهِ ؟ أَتَظُنُّهُ يُوفِي بِعَهْدِكَ , أَوْ يُسَبِّحُ مِنْ خَوْفِكَ ؟ هَلْ تُحْصِي عُمُرَهُ , أَمْ هَلْ تَدْرِي أَجَلَهُ , أَوْ تُفَوِّتُ رِزْقَهُ ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مَاذَا خَرَّبَ مِنَ الأَرْضِ ، أَمْ مَاذَا يُخَرِّبُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ؟ أَتُطِيقُ غَضَبَهُ حِينَ يَغْضَبُ , أَمْ تَأْمُرُهُ فَيُطِيعَكَ ؟ تَبَارَكَ اللَّهُ وَتَعَالَى ، قَالَ أَيُّوبُ عليه السلام : قَصُرْتُ عَنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي تَعْرِضُ لِي , لَيْتَ الأَرْضَ انْشَقَّتْ بِي فَذَهَبْتُ فِي بَلائِي , وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُ رَبِّي ، اجْتَمَعَ عَلَيَّ الْبَلاءُ , إِلَهِي ، جَعَلْتَنِي لَكَ مِثْلَ الْعَدُوِّ وَقَدْ كُنْتَ تُكْرِمُنِي , وَتَعْرِفُ نُصْحِي ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ كل الَّذِيَ ذَكَرْتَ صُنْعُ يَدَيْكَ , وَتَدْبِيرُ حِكْمَتِكَ ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا مَا شِئْتَ عَمِلْتَ , لا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ , وَلا تخْفَى عَنكَ خَافِيَةٌ , وَلا تَغِيبُ عَنْكَ غَائِبَةٌ ، مَنْ هَذَا الَّذِي يَظُنُّ أَنْ يُسِرَّ عَنْكَ سِرًّا ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا يَخْطُرُ عَلَى الْقُلُوبِ ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ مِنْكَ فِي بَلائِي هَذَا مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ ، وَخِفْتُ حِينَ بَلَوْتُ أَمْرَكَ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُ أَخَافُ . إِنَّمَا كُنْتُ أَسْمَعُ بِسَطْوَتِكَ سَمْعًا ، فَأَمَّا الآنَ فَهُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ . إِنَّمَا تَكَلَّمْتُ حِينَ تَكَلَّمْتُ لِتَعْذُرَنِي , وَسَكَتُّ حِينَ سَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي ، كَلِمَةٌ زَلَّتْ , فَلَنْ أَعُودَ . قَدْ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي ، وَعَضَضْتُ عَلَى لِسَانِي ، وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي ، وَدَسَسْتُ وَجْهِي لِصَغَارِي ، وَسَكَتُّ كَمَا أَسْكَتَتْنِي خَطِيئَتِي ، فَاغْفِرْ لِي مَا قُلْتُ , فَلَنْ أَعُودَ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مِنِّي ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا أَيُّوبُ , نَفَذَ فِيكَ عِلْمِي ، وَبِحِلْمِي صَرَفْتُ عَنْكَ غَضَبِي إِذْ خَطِئْتَ , فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ , وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ ، وَقَرِّبْ عَنْ صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ " .

الرواه :

الأسم الرتبة

Whoops, looks like something went wrong.