سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي الطَّيِّبِ , يَقُولُ : بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ الْعَابِدِ ، قَالَ : احْتَجْتُ إِلَى صَانِعٍ يَصْنَعُ لِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الرُّوزْ جَارِيِينَ ، فَأَتَيْتُ السُّوقَ فَجَعَلْتُ أَرْمُقُ الصُّنَّاعَ , فَإِذَا فِي أَوَاخِرِهِمْ شَابٌّ مُصَفِّرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ زَبِيلٌ كَبِيرٌ , وَمَرَّ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَمِئْزَرُ صُوفٍ ، فَقُلْتُ لَهُ : تَعْمَلُ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قُلْتُ : بِكَمْ ؟ قَالَ : بِدِرْهَمٍ وَدَانِقٍ فَقُلْتُ لَهُ : قُمْ حَتَّى تَعْمَلْ ، قَالَ : عَلَى شَرِيطَةٍ , فَقُلْتُ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : إِذَا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ، خَرَجْتُ وَتَطَهَّرْتُ ، وَصَلَّيْتُ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَرَجَعْتُ , وَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَكَذَلِكَ , فَقُلْتُ نَعَمْ , فَقَامَ مَعِي فَجِئْنَا الْمَنْزِلَ ، فَوَافَقْتُهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ , فَشَدَّ وَسطَهُ وَجَعَلَ يَعْمَلُ وَلا يُكَلِّمُنِي بِشَيْءٍ ، حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الظُّهْرَ , فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ قَدْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ , قُلْتُ : شَأْنَكَ , فَخَرَجَ فَصَلَّى ثُمَّ رَجَعَ , فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ ، فَوَزَنْتُ لَهُ أُجْرَتَهُ وَانْصَرَفَ , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ احْتَجْنَا إِلَى عَمَلٍ , فَقَالَتْ لِي زَوْجَتِي : اطْلُبْ لَنَا ذَلِكَ الصَّانِعَ الشَّابَّ فَإِنَّهُ نَصَحَنَا فِي عَمَلِنَا , فَجِئْتُ السُّوقَ فَلَمْ أَرَهُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا : تَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ الْمُصَفِّرِ الْمَشْئُومِ الَّذِي لا نَرَاهُ إِلا مِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ , لا يَجْلِسُ إِلا وَحْدَهُ فِي آخِرِ النَّاسِ ؟ قَالَ : فَانْصَرَفْتُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَتَيْتُ السُّوقَ فَصَادَفْتُهُ , فَقُلْتُ لَهُ : تَعْمَلُ ؟ قَالَ : قَدْ عَرَفْتَ الأُجْرَةَ وَالشَّرْطَ ؟ قُلْتُ : أَسْتَخِيرُ اللَّهَ ، فَقَامَ فَعَمِلَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي كَانَ عَمِلَهُ , فَلَمَّا وَزَنْتُ لَهُ الأُجْرَةَ زِدْتَهُ , فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ , فَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ ، فَضَجِرَ وَتَرَكَنِي وَمَضَى ، فَغَمَّنِي ذَلِكَ ، فَاتَّبَعْتُهُ وَدَارَيْتُهُ ، حَتَّى أَخَذَ أُجْرَتَهُ فَقَطْ , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ احْتَجْنَا أَيْضًا إِلَيْهِ ، فَمَضَيْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، فَلَمْ أُصَادِفْهُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ , فَقِيلَ لِي : هُوَ عَلِيلٌ , فَقَالَ لِي مَنْ يُخْبِرُهُ أَمْرَهُ : إِنَّمَا كَانَ يَجِيءُ إِلَى السُّوقِ مِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ يَعْمَلُ بِدِرْهَمٍ وَدَانِقٍ ، وَيَتَقَوَّتُ كُلَّ يَوْمٍ دَانِقًا , وَقَدْ مَرِضَ فَسَأَلْتُ عَنْ مَنْزِلِهِ ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ عَجُوزٍ , فَقُلْتُ لَهَا : هُنَا الشَّابُّ الرُّوزْجَارِيُّ , فَقَالَتْ : هُوَ عَلِيلٌ مُنْذُ أَيَّامٍ , فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ ، فَوَجَدْتُهُ لِمَا بِهِ , وَتَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ : لَكَ حَاجَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنْ قَبِلْتَ , قُلْتُ : أَقْبَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَبِعْ هَذَا الْمُرَّ ، وَاغْسِلْ جُبَّتِي هَذِهِ الصُّوفَ وَهَذَا الْمِئْزَرَ فَكَفِّنِّي بِهِمَا ، وَافْتِقْ جَيْبَ الْجُبَّةِ , فَإِنَّ فِيهَا خَاتَمٌ ، فَخُذْهُ ثُمَّ انْظُرْ يَوْمَ يَرْكَبُ هَارُونُ الرَّشِيدُ الْخَلِيفَةُ ، فَقِفْ لَهُ فِي مَوْضِعٍ يَرَاكَ فَكَلِّمْهُ ، وَأَرِهِ الْخَاتَمَ فَإِنَّهُ سَيَدْعُوكَ , فَسَلِّمْ إِلَيْهِ الْخَاتَمَ , وَلا يَكُونُ هَذَا إِلا بَعْدَ دَفْنِي , قُلْتُ : نَعَمْ , فَلَمَّا مَاتَ فَعَلْتُ بِهِ مَا أَمَرَنِي ، ثُمَّ نَظَرْتُ الْيَوْمَ الَّذِي يَرْكَبُ فِيهِ الرَّشِيدُ ، فَجَلَسْتُ لَهُ عَلَى الطَّرِيقِ , فَلَمَّا مَرَّ نَادَيْتُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ ، وَلَوَّحْتُ بِالْخَاتَمِ , فَأَمَرَ بِي فَأُخِذْتُ وَحُمِلْتُ حَتَّى دَخَلَ إِلَى دَارِهِ ، ثُمَّ دَعَانِي وَصَرَفَ جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ , وَقَالَ لِي : مَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ , فَقَالَ : هَذَا الْخَاتَمُ مِنْ أَيْنَ لَكَ ؟ فَحَدَّثْتُهُ قِصَّةَ الشَّابِّ , فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَحِمْتُهُ , فَلَمَّا أَنِسَ إِلَيَّ قُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , مَنْ هُوَ مِنْكَ ؟ قَالَ : ابْنِي , قُلْتُ : كَيْفَ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ قَالَ : وُلِدَ لِي قَبْلَ أَنْ أُبْتَلَى بِالْخِلافَةِ فَنَشَأَ نُشُوءًا حَسَنًا ، وَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ , فَلَمَّا وُلِّيتُ الْخِلافَةَ ، تَرَكَنِي وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَايَ شَيْئًا , فَدَفَعْتُ إِلَى أُمِّهِ هَذَا الْخَاتَمَ وَهُوَ يَاقُوتٌ وَيَسْوَى مَالا كَثِيرًا , فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهَا وَقُلْتُ لَهَا : تَدْفَعِينَ هَذَا إِلَيْهِ ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ ، وَتَسْأَلِينَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ فَيَنْتَفِعَ بِهِ , وَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ فَمَا عَرَفْتُ لَهُ خَبَرًا إِلا مَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ أَنْتَ , ثُمَّ قَالَ لِي : إِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَاخْرُجْ مَعِي إِلَى قَبْرِهِ , فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ وَحْدَهُ مَعِي يَمْشِي حَتَّى أَتَيْنَا قَبْرَهُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا , فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ ، قُمْنَا فَرَجَعَ ثُمَّ قَالَ : تَعَاهَدْنِي فِي كُلِّ الأَيَّامِ حَتَّى أَزُورَ قَبْرَهُ , فَكُنْتُ أَتَعَاهَدُهُ فِي الأَيَّامِ فَيَخْرُجُ ، فَيَزُورُ قَبْرَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ : فَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ ابْنُ الرَّشِيدِ ، حَتَّى أَخْبَرَنِي الرَّشِيدُ أَنَّهُ ابْنُهُ ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الطَّيِّبِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ , أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ , وَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا , وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ فَعَرَضَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ مَالا عَظِيمًا ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَبَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْفَرَجِ لَمَّا مَاتَ ، لَمْ تَعْلَمْ زَوْجَتُهُ لإِخْوَانِهِ بِمَوْتِهِ ، وَهُمْ جُلُوسٌ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُونَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ , فَغَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ فِي كِسَاءٍ كَانَ لَهُ ، فَأَخَذَتْ فَرْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِهِ ، وَجَعَلَتْهُ فَوْقَهُ وَشَدَّتْهُ بِشَرِيطٍ , ثُمَّ قَالَتْ لإِخْوَانِهِ : قَدْ مَاتَ وَقَدْ فَرَغْتُ مِنْ جِهَازِهِ , فَدَخَلُوا فَاحْتَمَلُوهُ إِلَى قَبْرِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْبَابَ خَلْفَهُمْ .
الأسم | الشهرة | الرتبة |