باب صفة البحر والحوت وعجائب ما فيهما


تفسير

رقم الحديث : 858

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الطَّبَرَكِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدَّامَغَانِيُّ ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : - وَقَدْ بَلَغَنِي فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ وَضَعْتُ حَدِيثَ كُلِّ مَنْ حَدَّثَ مَوْضِعَهُ ، وَحَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ رَجُلا مِنَ الرُّومِ ابْنَ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِهِمْ ، لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ ، وَكَانَ اسْمُهُ الإِسْكَنْدَرْلِيسُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لأَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، إِنِّي بَاعِثُكَ إِلَى أُمَمِ الأَرْضِ ، وَهُمْ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ أَلْسِنَتُهُمْ كُلُّهَا ، وَهُمْ جَمِيعٌ أَهْلُ الأَرْضِ ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الأَرْضِ كُلُّهُ ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الأَرْضِ كُلُّهُ ، وَأُمَمٌ مِنْهُمْ فِي وَسَطِ الأَرْضِ ، مِنْهُمُ الْجِنُّ وَالإِنْسُ ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، فَأَمَّا اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الأَرْضِ ، فَأُمَّةٌ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ يُقَالُ لَهَا نَاسِكُ ، وَأَمَّا الأُخْرَى فَعِنْدَ مَطْلِعِهَا يُقَالُ لَهَا الْمَنْسَكُ ، وَأَمَّا اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الأَرْضِ فَأُمَّةُ فِي قُطْرِ الأَرْضِ الأَيْمَنِ ، يُقَالُ لَهُ هَاوِيلُ ، وَأَمَّا الَّتِي فِي قُطْرِ الأَرْضِ الأَيْسَرِ فَأُمَّةٌ يُقَالُ لَهَا تَاوِيلُ ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : إِلَهِي إِنَّكَ قَدْ نَدَبْتَنِي لأَمْرٍ عَظِيمٍ لا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلا أَنْتَ ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ هَذِهِ الأُمَمِ الَّتِي تَبْعَثُنِي إِلَيْهَا ، بِأَيِّ قَوْمٍ أُكَابِرُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ جَمْعٍ أُكَابِرُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ حِيلَةٍ أُكَايِدُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ صَبْرٍ أُقَاسِيهِمْ ؟ ، وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُنَاطِقُهُمْ ؟ ، وَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَفْقَهَ لُغَاتِهِمْ ؟ ، وَبِأَيِّ سَمْعٍ أَعِي قَوْلَهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ بَصَرٍ أَنْفُذُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ حُجَّةٍ أَخْصُمُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ قَلْبٍ أَعْقِلُ عَنْهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ قِسْطٍ أَعْدِلُ بَيْنَهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ حِلْمٍ أُصَابِرُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ مَعْرِفَةٍ أَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أَمَرَهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ يَدٍ أَسْطُو عَلَيْهِمْ ؟ ، وَبِأَيِّ رِجْلٍ أَطَأُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ طَاقَةٍ أُحْصِيهِمْ ؟ ، وَبِأَيِّ جُنْدٍ أُقَاتِلُهُمْ ؟ ، وَبِأَيِّ رِفْقٍ أَسْتَأْلِفُهُمْ ؟ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي يَا إِلَهِي شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُ ، وَلا نَقْوَى عَلَيْهِمْ وَلا نُطِيقُهُمْ ، وَأَنْتَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَلا تُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ، وَلا تُحَمِّلُهَا إِلا طَاقَتَهَا ، وَلا تُعَنِّتُهَا وَلا تَفْدَحُهَا ، بَلْ أَنْتَ تَرْأَفُ بِهَا وَتَرْحَمُهَا ، وَتَعْذُرُهَا وَتَقَبَلُ مِنْهَا دُونَ جُهْدِهَا وَطَاقَتِهَا . فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنِّي سَأُطَوِّقُكَ مَا حَمَّلْتُكَ ، وَأَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ فَيَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأَشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأُطْلِقُ لَكَ ، وَأَبْسِطُ لَكَ لِسَانَكَ ، فَتَنْطِقُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأَفْتَحُ لَكَ سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ ، وَأُحِدُّ لَكَ بَصَرَكَ فَتَنْفُذُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأُدَبِّرُ لَكَ أَمْرَكَ ، فَتُتْقِنَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأُحْصِي لَكَ فَلا يَفُوتُكَ شَيْءٌ ، وَأَحْفَظُ عَلَيْكَ ، فَلا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ ، وَأَشُدُّ لَكَ ظَهْرَكَ فَلا يَهُدُّكَ شَيْءٌ ، وَأَشُدُّ لَكَ رُكْنَكَ ، فَلا يَغْلِبُكَ شَيْءٌ ، وَأَبْسِطُ لَكَ يَدَيْكَ فَتَسْطُوَانِ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأَشُدُّ لَكَ وَطْأَتَكَ ، فَتَبِيدُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأُلْبِسُكَ الْهَيْبَةَ ، فَلا يَرُوعَكَ شَيْءٌ ، وَأُمْضِي لَكَ جَنَاحَكَ فَلا يَرْدَعُكَ ، وَلا يَرُدُّكَ شَيْءٌ ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ ، فَأَجْعَلُهُمَا جُنْدًا لَكَ مِنْ جُنُودِكَ ، يَهْدِيكَ النُّورُ مِنْ أَمَامِكَ ، وَتَحُوطُكَ الظُّلْمَةُ مِنْ وَرَائِكَ ، وَتَحُوشُ عَلَيْكَ الأُمَمَ مِنْ وَرَائِكَ ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ انْطَلَقَ يَؤُمُّ الأُمَّةَ الَّتِي عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ وَجَدَ جَمْعًا وَعَدَدًا لا يُحْصِيهِمْ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقُوَّةً وَبَأْسًا لا يُطِيقُهُ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَلْسِنَةً مُخْتَلِفَةً ، وَأَهْوَاءً مُتَشَتِّةً ، وَقُلُوبًا مُتَفَرِّقَةً ، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمْ ذَلِكَ كَابَرَهُمْ بِالظُّلْمَةِ ، فَضَرَبَ حَوْلَهُمْ ثَلاثَ عَسَاكِرَ مِنْهَا ، فَأَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، وَحَاشَتْهُمْ حَتَّى جَمَعَتْهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بِالنُّورِ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادَتِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ لَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ، فَعَمِدَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الظُّلْمَةَ ، فَدَخَلَتْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ وَأُنُوفِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ ، وَدَخَلَتْ فِي بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ ، وَغَشِيَتْهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ، وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُمْ ، فَمَاجُوا فِيهَا وَتَحَيَّرُوا ، فَلَمَّا أَشْفَقُوا أَنْ يَهْلِكُوا فِيهَا عَجُّوا إِلَيْهِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ ، فَكَشَفَهَا عَنْهُمْ ، وَأَخَذَهُمْ عَنْوَةً ، فَدَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ ، فَجَنَّدَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ أُمَّةً عَظِيمَةً ، فَجَعَلَهُمْ جُنْدًا وَاحِدًا ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ يَقُودُهُمْ ، وَالظُّلْمَةُ تَسُوقُهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ، وَتَحُوشُهُمْ مِنْ حَوْلِهِمْ ، وَالنُّورُ أَمَامَهُ يَقُودُهُمْ ، وَيَدُلُّهُ وَهُوَ يَسِيرُ فِي نَاحِيَةِ الأَرْضِ الْيُمْنَى ، وَهُوَ يُرِيدُ الأُمَّةَ الَّتِي فِي قُطْرِ الأَرْضِ الأَيْمَنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا هَاوِيلُ ، وَسَخَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَدَهُ وَقَلْبَهُ ، وَرَأْيَهُ وَعَقْلَهُ ، وَنَظَرَهُ وَائْتِمَارَهُ ، فَلا يُخْطِئُ إِذَا ائْتَمَرَ ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلا أَتْقَنَهُ ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ تِلْكَ الأُمَمَ وَهِيَ تَتْبَعُهُ ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى بَحْرٍ ، أَوْ مَخَاضَةٍ بَنَى سُفُنًا مِنْ أَلْوَاحٍ صِغَارٍ أَمْثَالِ النِّعَالِ ، فَنَظَمَهَا فِي سَاعَةٍ ، ثُمَّ حَمَلَ فِيهَا جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الأُمَمِ ، وَتِلْكَ الْجُنُودِ ، فَإِذَا قَطَعَ تِلْكَ الأَنْهَارَ وَالْبِحَارِ فَتَقَهَا ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ لَوْحًا ، فَلا يُكْرِثُهُ حَمَلُهُ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَاوِيلَ ، فَعَمِلَ فِيهَا كَعَمَلِهِ فِي نَاسِكَ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ فِي نَاحِيَةِ الأَرْضِ الْيُمْنَى ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْسَكَ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ ، فَعَمِلَ فِيهَا وَجَنَّدَ مِنْهَا جُنُودًا كَفِعْلِهِ فِي الأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ كَرَّ مُقْبِلا فِي نَاحِيَةِ الأَرْضِ الْيُسْرَى ، وَهُوَ يُرِيدُ تَاوِيلَ ، وَهِيَ الأُمَّةُ الَّتِي بِحِيَالِ هَاوِيلَ ، وَهُمَا مُتَقَابِلَتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الأَرْضِ كُلِّهَا ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَمِلَ فِيهَا جُنْدًا مِنْهَا كَفِعْلِهِ فِيمَا قَبْلَهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا عَطَفَ مِنْهَا إِلَى الأُمَمِ الَّتِي فِي وَسَطِ الأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَسَائِرِ الإِنْسِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مِمَّا يَلِي مُنْقَطِعَ أَرْضِ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ قَالَتْ لَهُ أُمَّةٌ مِنَ الإِنْسِ صَالِحَةٌ : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، إِنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرًا ، فِيهِمْ مَشَابَهَةٌ مِنَ الإِنْسِ ، وَهُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ ، يَأْكُلُونَ الْعُشْبَ وَيَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ كَمَا يَفْتَرِسُهَا السِّبَاعُ ، وَيَأْكُلُونَ نِشَارَ الأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ ، وَالْعَقَارِبِ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ ، وَلَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقٌ يَنْمُو كَنَمَائِهِمْ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ ، وَلا يَزْدَادُ كَزِيَادَتِهِمْ ، وَلا يَكْثُرُ كَكَثْرَتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ عَلَى مَا نَرَى مِنْ زِيَادَتِهِمْ وَنَمَائِهِمْ ، فَلا شَكَّ أَنَّهُمْ سَيَمْلِكُونَ الأَرْضَ ، وَيُجْلُونَ أَهْلَهَا مِنْهَا ، وَيَظْهَرُونَ عَلَيْهَا ، فَيُفْسِدُونَ فِيهَا ، وَلَيْسَتْ تَمُرُّ بِنَا سَنَةٌ مُنْذُ جَاوَزَنَا ، وَرَأَيْنَاهُمْ إِلا ، وَنَحْنُ نَتَوَقَّعَهُمْ ، وَنَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ أَوَائِلُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ : فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا سورة الكهف آية 94 ، إِلَى قَوْلِهِ : رَدْمًا سورة الكهف آية 95 ، فَقَالَ : أَعِدُّوا لِيَ الصُّخُورَ وَالْحَدِيدَ ، وَالنُّحَاسَ حَتَّى أَرْتَادَ بِلادَهُمْ ، وَأَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ، وَأُفَتِّشَ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهِمْ ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهِمْ وَتَوَسَّطَ بِلادَهُمْ ، فَإِذَا هُمْ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ ، إِنَاثُهُمْ وَذُكْرَانُهُمْ ، يَبْلُغُ طُولُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مِثْلَ نِصْفِ الرَّجُلِ الْمَرْبُوعِ مِنَّا ، لَهُمْ مَخَالِيبُ فِي مَوْضِعِ الأَظْفَارِ مِنْ أَيْدِينَا وَأَضْرَاسٌ ، وَأَنْيَابٌ كَأَضْرَاسِ السَّبُعِ وَأَنْيَابِهَا ، وَأَحْنَاكٌ كَأَحْنَاكِ الإِبِلِ فَوَهٌ ، تَسْمَعُ لَهُ حَرَكَةً إِذَا أَكَلُوا كَحَرَكَةِ الْجَزَّةِ مِنَ الإِبِلِ ، أَوْ كقَضْمِ الْبَغْلِ الْمُسِنِّ ، أَوِ الْفَرَسِ الْمُقَوَّى ، وَهُمْ هُلْبٌ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّعْرِ فِي أَجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيهِمْ ، وَمَا يَتَّقُونَ بِهِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرَدِ إِذَا أَصَابَهُمْ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ عَظِيمَتَانِ : إِحْدَاهُمَا وَبِرَةٌ ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا ، وَالأُخْرَى زَغِبَةٌ ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا ، تَسَعَانِهِ إِذَا لَبِسَهُمَا يَلْتَحِفُ إِحْدَاهُمَا وَيَفْتَرِشُ الأُخْرَى ، وَيَتَصَيَّفُ فِي إِحْدَاهُمَا ، وَيَشْتُو فِي الأُخْرَى ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَكَرٌ ، وَلا أُنْثَى إِلا وَقَدْ عَرَفَ أَجَلَهُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ ، وَمُنْقَطَعَ عُمُرِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لا يَمُوتُ مِنْ ذُكُورِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ صُلْبِهِ أَلْفُ وَلَدٍ ، وَلا تَمُوتُ الأُنْثَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ رَحِمِهَا أَلْفُ وَلَدٍ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَيْقَنَا بِالْمَوْتِ ، وَتَهَيَّآ لَهُ ، وَهُمْ يُرْزَقُونَ التِّنْينَ فِي زَمَانِ الرَّبِيعِ ، وَيَسْتَمْطِرُونَهُ إِذَا تَحَيَّنُوهُ كَمَا يُسْتَمْطَرُ الْغَيْثُ لِحِينِهِ ، فَيُقْذَفُونَ مِنْهُ كُلَّ سَنَةٍ بِوَاحِدَةٍ ، فَيَأْكُلُونَهُ عَامَهُمْ كُلَّهُ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ ، فَيُغْنِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَنَمَائِهِمْ ، فَإِذَا أُمْطِرُوا أَخْصَبُوا وَعَاشُوا وَسَمِنُوا ، وَرُئِيَ أَثَرُهُ عَلَيْهِمْ ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ الإِنَاثُ ، وشَبِقَتْ مِنْهُ الرِّجَالُ الذُّكُورُ ، وَإِذَا أَخْطَأَهُمْ هَزَلُوا ، وَأَجْدَبُوا ، وَجَفَرَتِ الذُّكُورُ ، وَحَالَتِ الإِنَاثُ ، وَتَبَيَّنَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَهُمْ يَتَدَاعَوْنَ تَدَاعِي الْحَمَامِ ، يَعْوُونَ عَيَّ الْكِلابِ ، وَيَتَسَافَدُونَ حَيْثُ مَا الْتَقَوْا تَسَافُدَ الْبَهَائِمِ ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ انْصَرَفَ إِلَى مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ، فَقَاسَ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ فِي مُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ ، مِمَّا يَلِي الشَّمْسَ ، فَوَجَدَ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةَ ، فَرْسَخٍ ، فَلَمَّا أَنْشَأَ فِي عَمَلِهِ حَفَرَ لَهُ أَسَاسًا ، حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ ، ثُمَّ جَعَلَ عَرَضَهُ خَمْسِينَ ، فَرْسَخًا ، وَجَعَلَ حَشْوَهُ الصُّخُورَ وَطِينَهُ النُّحَاسَ ، ثُمَّ يُذَابُ ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عِرْقٌ مِنْ جَبَلٍ تَحْتَ الأَرْضِ ، ثُمَّ عَلاهُ ، وَشَرَفَهُ بِزُبِرِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ ، وَجَعَلَ خِلالَهُ عِرْقًا مِنْ نُحَاسٍ أَصْفَرَ كَأَنَّهُ بُرْدٌ مُحَبَّرٌ مِنْ صُفْرَةِ النُّحَاسِ ، وَحُمْرَتِهِ وَسَوادِ الْحَدِيدِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ وَأَحْكَمَهُ انْطَلَقَ عَامِدًا إِلَى جَمَاعَةِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ إِذْ دَفَعَ إِلَى أُمَّةٍ صَالِحَةٍ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ ، فَوَجَدَ أُمَّةً مُقْتَصِدَةً يَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ ، وَيَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ ، وَيَتَأَسَّوْنَ بِهِ ، وَيَتَرَاحَمُونَ حَالُهُمْ وَاحِدَةٌ ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ ، وَأَخْلاقُهُمْ سَلِيمَةٌ ، وَطَرِيقَتُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ ، وَقُلُوبُهُمْ مَؤْتَلِفَةٌ ، وَسِيرَتُهُمْ مُسْتَوِيَةٌ ، وَقُبُورُهُمْ بَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ ، وَلَيْسَ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ قُضَاةٌ ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَغْنِيَاءَ ، وَلا مُلُوكٌ ، وَلا أَشْرَافٌ ، وَلا يَتَفَاوَتُونَ ، وَلا يَتَفَاضَلُونَ ، وَلا يَتَنَازَعُونَ ، وَلا يَسْتَبُّونَ ، وَلا يَقْتَتِلُونَ ، وَلا يَقْحَطُونَ ، وَلا يَحْرِدُونَ ، وَلا تُصِيبُهُمُ الآفَاتُ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ ، وَهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْمَارًا ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِسْكِينٌ وَلا فَقِيرٌ ، وَلا فَظٌّ وَلا غَلِيظٌ . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَمْرِهِمْ تَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَقَالَ لَهُمْ : أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْقَوْمُ خَبَرَكُمْ ، فَإِنِّي قَدْ أَحْصَيْتُ الْبِلادَ كُلَّهَا ، بَرَّهَا وَبَحْرَهَا ، وَشَرْقَهَا وَغَرْبَهَا ، وَنُورَهَا وَظَلْمُهَا ، فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا أَحَدًا مِثْلَكُمْ ، فَأَخْبَرُونِي خَبَرَكُمْ . قَالُوا : نَعَمْ ، فَاسْأَلْنَا عَمَّا بَدَا لَكَ ، قَالَ : أَخْبِرُونِي مَا بَالُ قُبُورِ مَوْتَاكُمْ عَلَى بَابِ بُيُوتِكُمْ ؟ قَالُوا : عَمْدًا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلا نَنْسَى الْمَوْتَ ، وَلا يَخْرُجُ ذِكْرُهُ مِنْ قُلُوبِنَا ، قَالَ : فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ ؟ قَالُوا : لَيْسَ فِينَا مُتَّهَمٌ ، وَلَيْسَ فِينَا إِلا أَمِينٌ مُؤْتَمَنٌ ، قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ ؟ قَالُوا : لا نَتَظَالَمُ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ حُكَّامٌ ؟ قَالُوا : لا نَخْتَصِمُ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَغْنِيَاءُ ؟ قَالُوا : لا نَتَكَاثَرُ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مُلُوكٌ ؟ قَالُوا : لا نَتَكَابَرُ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَشْرَافٌ ؟ قَالُوا : لا نَتَنَافَسُ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لا تَتَفَاضَلُونَ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أَنَّا مُتَوَاصِلُونَ مُتَرَاحِمُونَ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لا تَتَنَازَعُونَ وَلا تَخْتَلِفُونَ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أُلْفَةِ قُلُوبِنَا وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِنَا . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لا تَسْتَبُّونَ وَلا تَقْتَتِلُونَ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أَنَّا غَلَبْنَا طَبَائِعَنَا بِالْعَزْمِ ، وَسُسْنَا أَنْفُسَنَا بِالأَحْلامِ . قَالَ : فَمَا بَالَكُمْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةٌ ، وَطَرِيقَتُكُمْ مُسْتَقِيمَةٌ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أَنَّا لا نَتَكَاذَبَ ، وَلا نَتَخَادَعُ ، وَلا يَغْتَابُ بَعْضُنَا بَعْضًا . قَالَ : فَأَخْبَرُونِي مِنْ أَيْنَ تَشَابَهَتْ قُلُوبُكُمْ ، وَاعْتَدَلَتْ سِيرَتَكُمْ ؟ قَالُوا : صَحَّتْ صُدُورُنَا ، فَنَزَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ مِنْ قُلُوبِنَا . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مِسْكِينٌ وَلا فَقِيرٌ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ فَظٌّ وَلا غَلِيظٌ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْمَارًا ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَتَعَاطَى الْحَقَّ ، وَنَحْكُمُ بِالْعَدْلِ . قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لا تَقْحَطُونَ ؟ قَالُوا : لا نُغْفِلُ الاسْتِغْفَارَ ، قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لا تَحْرِدُونَ ؟ قَالُوا : مِنْ قِبَلِ أَنَّا وَطَّنَّا أَنْفُسَنَا لِلْبَلاءِ مُنْذُ كُنَّا ، فَأَحْبَبْنَاهُ ، وَحَرِصْنَا عَلَيْهِ ، فَعَرِينَا مِنْهُ ، قَالَ : فَمَا بَالُكُمْ لا تُصِيبُكُمُ الآفَاتُ كَمَا تُصِيبُ النَّاسَ ؟ قَالُوا : لا نَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ، وَلا نَعْمَلُ بِالأَنْوَاءِ وَالنُّجُومِ . قَالَ : حَدِّثُونِي ، أَهَكَذَا وَجَدْتُمْ آبَاءَكُمْ يَعْمَلُونَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَرْحَمُونَ مَسَاكِينَهُمْ ، وَيُوَاسُونَ فُقَرَاءَهُمْ ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ ، وَيَحْلِمُونَ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ سَبَّهُمْ ، وَيَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ ، وَيَرُدُّونَ أَمَانَتَهُمْ ، وَيَحْفَظُونَ وَقْتَهُمْ لِصَلاتِهِمْ ، وَيُوفُونَ بِعُهُودِهِمْ ، وَيَصْدُقُونَ فِي مَوَاعِيدِهِمْ ، وَلا يَرْغَبُونَ عَنْ أَكْفَائِهِمْ ، وَلا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَقَارِبِهِمْ ، فَأَصْلَحَ اللَّهُ بِذَلِكَ أَمَرَهُمْ ، وَحَفِظَهُمْ بِهِ مَا كَانُوا أَحْيَاءً ، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّفُهُمْ فِي تَرِكَتِهِمْ " . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَذَكَرَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَالَ لِتِلْكَ الأُمَّةِ : لَوْ كُنْتُ مُقِيمًا لأَقَمْتُ فِيكُمْ ، وَلَكِنْ لَمْ أُومَرْ بِالْقِيَامِ .

الرواه :

الأسم الرتبة

Whoops, looks like something went wrong.