حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حمدون النديم ، عَنْ أَبِي بَكْر الْعِجْليّ ، عَنْ جماعة من مشايخ قريش من أَهْل المدينة ، قَالُوا : كَانَتْ عِنْد عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر جاريةٌ مُغنية يُقَالُ لها : عمارة ، وكان يَجِدُ بها وجدًا شديدًا ، وكان لها منه مكانٌ لَمْ يَكُنْ لأحدٍ من جواريه ، فَلَمَّا وفد عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر عَلَى مُعَاوِيَة خرج بها معه ، فزاره يَزِيدُ ذات يوْم ، فأخرجها إِلَيْهِ ، فَلَمَّا نظر إليها ، وسَمِع غناءها وقعتْ فِي نفسه ، فأخذَهُ عليها ما لا يملكه ، وَجَعَل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إِلا مكان أَبِيهِ مَعَ يأسه من الظفر بها . وَلَم يزل يكاتمُ النّاس أمرها إِلَى أن مات مُعَاوِيَة وأفضى الأمر إِلَيْهِ ، فاستشار بعض من قَدم عَلَيْه من أَهْل المدينة وعامةَ من يثق بِهِ فِي أمرها وكيف الحيلة فيها ، فَقِيل لَهُ : إن أمر عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر لا يُرام ، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قَدْ علمت ، وأنت لا تستجيزُ إكراهه ، وَهُوَ لا يبيعها بشيء أبدًا ، وليس يُغني فِي هَذَا إِلا الحيلة . فَقَالَ : انظروا لي رَجُلا عراقيًّا لَهُ أدبٌ وظَرْفٌ ومعرفة ، فطلبوه فأتوه بِهِ ، فَلَمَّا دخل رَأَى بيانًا وحلاوة وفَهْمًا ، فَقَالَ يَزِيد : إني دعوتُك لأمر إن ظفرت بِهِ فهو حُظْوَتُك آخر الدَّهْر ، ويدٌ أكافئك عليها إن شاء اللَّه ، ثُمّ أخبره بأمره ، فَقَالَ لَهُ : إن عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر لَيْسَ يُرام ما قِبَلَهُ إِلا بالخديعة ، ولن يقدر أحدٌ عَلَى ما سَأَلت ، وأرجعوا أن أكونه والقوة بِاللَّه ، فأَعِنِّي بالمال ، قَالَ : خُذْ ما أحببت ، فأخذ من طُرف الشام وثياب مصر واشترى متاعًا للتجارة من رقيقٍ ودواب وغير ذَلِكَ ، ثُمّ شخص إِلَى المدينة ، فأناخ بعَرْصَة عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر ، واكترى منزلا إِلَى جانبه ، ثُمّ توسل إِلَيْهِ ، وقَالَ : رَجُل من أَهْل العراق قدمتُ بتجارة وأحببت أن أكون فِي عز جوارك وكنفك إِلَى أن أبيع ما جئت بِهِ . فبعث عَبْد اللَّه إِلَى قهرمانه أن أكرم الرَّجُل ووسِّع عَلَيْه فِي نُزُله ، فَلَمَّا اطمأن العراقيُّ سلَّم عَلَيْه أيامًا ، وعرفه نفسه ، وهيّأ لَهُ بغلة فارهة وثيابًا من ثياب العراق وألطافًا ، فبعث بها إِلَيْهِ وكتب معها : إني يا سيِّدي رَجُلٌ تاجر ونعمة اللَّه تَعَالَى عليَّ سابغة ، وَقَدْ بعثت إليك بشيء من لَطَفٍ وكذا وكذا من الثياب والعطر ، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطيئة الظهر فاتخذها لرجلك ، فأنا أسألك بقرابتك من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قبلت هديتي ، وَلا توحشني بردها ، فَإِنِّي أدين للَّه تَعَالَى بمحبتك وحبِّ أَهْل بيتك ، فَإِن أعظم أملي فِي سفرتي هَذِهِ أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك . فأمر عَبْد اللَّه بقبض هديته ، وخرج إِلَى الصَّلاة ، فَلَمَّا رجع مر بالعراقيّ فِي منزله فقام إِلَيْهِ وقبَّل يده واستكثر منه ، فرأى أدبًا وظَرفًا وفصاحةً ، فأعجب بِهِ وسُرَّ بنزوله عَلَيْه ، فجعل العراقيُّ فِي كُلّ يوْم يبعث إِلَى عَبْد اللَّه بلَطَف وطُرَفٍ ، فَقَالَ عَبْد اللَّه : جزى اللَّه ضيفَنَا هَذَا خيرًا ، فقد مَلأَنا شكرًا وما نقدر عَلَى مكافأته ، فَإنَّهُ لكذلك إِلَى أن دعاه عَبْد اللَّه ودعا عمارة وجواريه ، فَلَمَّا طاب لهما المجلس ، وسَمِع غناء عمارة تعجب وَجَعَل يَزِيد فِي عجبه ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّه سُرَّ بِهِ ، إِلَى أن قَالَ لَهُ : هَلْ رَأَيْت مثل عمارة ؟ ، قَالَ : لا واللَّهِ يَا سيدي ، ما رَأَيْت مثلها وَلا تصلح إِلا لك ، وما ظننت أَنَّهُ يَكُون فِي الدُّنْيَا مثل هَذِهِ الجارية حسن وجه وحسن غناء ، قَالَ : وكم تساوي عندك ؟ ، قَالَ : ما لها ثمن إِلا الخلافة ، قَالَ : تَقُولُ هَذَا لتزين لي رأي فيها وتجتلب سروري ؟ ، قَالَ لَهُ : يا سيدي واللَّهِ إني لأحب سرورك ، وما قُلْتُ لك إِلا الجد ، وبعد فغني تاجر أجمع الدرهم إِلَى الدرهم طلبًا للربح ، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه عشرة آلاف دينار ؟ ، قَالَ : نعم ، وَلَم يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزمان جارية تعرف بِهَذَا الثمن ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : أَنَا أبيعكها بعشرة آلاف دينار ، قَالَ : وَقَدْ أخذتها ، قَالَ : هِيَ لك ، قَالَ : قَدْ وجب البيع ، فانصرف العراقي . فَلَمَّا أصبح عَبْد اللَّه لَمْ يشعر إِلا بالمال قَدْ وافى بِهِ ، فَقِيل لعبد اللَّه : قَدْ بعث العراقي بعشرة آلاف دينار ، وقَالَ : هَذَا ثمن عمارة ، فردها وكتب إِلَيْهِ إِنَّمَا كُنْت أمزح معك ، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها ، فَقَالَ لَهُ : جعلت فداك ، إن الْجِدَّ والهَزْل فِي البيع سواء ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : ويحك ! ما أَعْلَم جاريةً تساوي ما بذلت ، ولو كنتُ بائعها من أحدٍ لآثرتُك ، ولكني كُنْت مازحًا ، وما أبيعها بملك الدُّنْيَا لحُرْمتها بي وموضعها من قلبي ، فَقَالَ العراقي : إن كُنْت مازحًا فَإِنِّي كُنْت جادًّا ، وما اطَّلَعْتُ عَلَى ما فِي نفسك ، وَقَدْ ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها ، وليست تَحِلُّ لك وما لي من أخذها من بد . فمانعه أذاه ، فَقَالَ لَهُ : ليست لي بيِّنة ، وَلَكِن أستحلفك عِنْد قبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنبره ، فَلَمَّا رَأَى عَبْد اللَّه الْجِدَّ ، قَالَ : بئس الضيف أَنْت ، ما طرقنا طارقٌ ، وَلا نزل بنا نازل أعظمَ علينا بَلِيَّةً منك ، تحلِّفُني فيقول النّاس اضطهد عَبْد اللَّه ضيفه وقهره ، فألجأه إِلَى أن أستحلفه ، أما واللَّه ليعلمنّ اللَّه جل ذكره أني سائله فِي هَذَا الأمر الصَّبْر وحسن العزاء ، ثُمّ أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب ، فجُهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار ، وقَالَ : هَذَا لك ولها عوضًا مما ألطفتنا ، واللَّه المستعان . فقبض العراقي الجراية وخرج بها ، فَلَمَّا برز من المدينة ، قَالَ لها : يا عمارة ، إني واللَّه ما ملكتُك قطّ ، وَلا أنت لي ، وَلا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار ، وما كُنْت لأقدم عَلَى ابْن عم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأستلبه أحبَّ النّاس إِلَيْهِ لنفسي ، ولكنني دسيسٌ من يَزِيد بْن مُعَاوِيَة وأنت لَهُ ، وَفِي طلبك بعث بي ، فاستتر منِّي ، وإن داخلني الشَّيْطَان فِي أمرك وتاقت نفسي إليك فامتنعي . ثُمّ مضى بها حَتَّى ورد دمشق ، فتلقاه النّاس بجنازة يَزِيد ، وَقَد استُخْلِف ابنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد ، فأقام الرَّجُل أيامًا ، ثُمّ تلطف للدخول عَلَيْه ، فشرح لَهُ القصة ، وروي أَنَّهُ لَمْ يَكُن احدٌ من بني أُمَيَّة يعدل بمعاوية بْن يَزِيد فِي زمانه نُبْلا ونُسكا فَلَمَّا أخبره ، قَالَ : هِيَ لك ، وكل ما دفعه إليك فِي أمرها فهو لك ، وارحل من يومك فلا أسمع من خبرك فِي بلاد الشام ، فرحل العراقي ، ثُمّ قَالَ للجارية : إني قُلْتُ لك ما قُلْتُ حين خرجتُ بك من المدينة ، وأخبرتُكِ أنَّكَ ليزيد وَقَدْ صرت لي ، وأنا أُشْهد اللَّه أنَّكَ لعبد اللَّه بْن جَعْفَر ، فَإِنِّي قَدْ رددتك عَلَيْه ، فاستتري مني ، ثُمّ خرج بها حَتَّى قدِم المدينة فنزل قريبًا من عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر ، فدخل عَلَيْه بعض خدمه ، فَقَالَ لَهُ : هَذَا العراقي ، ضيفُك الَّذِي صنع بنا ما صنع ، وَقَدْ نزل العَرْصَة لا حياه اللَّه . فَقَالَ عَبْد اللَّه : مه ! أنزلوا الرَّجُل وأكرموه . فَلَمَّا استقر بِهِ ، بعث إِلَى عَبْد اللَّه : جُعلتُ فِداك ، إن رَأَيْت أن تأذَنَ لي أَذْنة خفيفة لأُشَافهك بشيء ؟ . فقلت : فأذن لَهُ ، فَلَمَّا دخل سلم عَلَيْه وقبل يده وقربه عَبْد اللَّه ، ثُمّ اقتص عَلَيْه القصة حَتَّى فرغ ، ثُمّ قَالَ : قَدْ واللَّه وهبتُها لك قبل أن أراها أَوْ أضع يدي عليها فهي لك ، ومَرْدُودة عليك ، وَقَدْ علم اللَّه جل وعز أني ما رَأَيْت لها وجهًا إِلا عندك ، وبعث إليها ، فجاءت وجاءتْ بما جهزها بِهِ موفرًا ، فَلَمَّا نظرت إلى عَبْد اللَّه خَرَّتْ مغشيًا عليها ، وأهوى إليها عَبْد اللَّه وضمها إِلَيْهِ . وخرج العراقي وتصايح أَهْل الدار : عمارة عمارة ، فجعل عَبْد اللَّه ، يَقُولُ ودموعه تجري : أحُلْمٌ هَذَا ؟ أحقٌّ هَذَا ؟ ما أصدق هَذَا ! فَقَالَ لَهُ العراقي : جعلت فداءك ، ردها اللَّه عليك بإيثارك الوفاء وصبرك عَلَى الحق ، وانقيادك لَهُ ، فَقَالَ عَبْد اللَّه : الحمد لله ، اللَّهُمَّ إنك تعلم أني صبرت عَنْهَا ، وآثرتُ الوفاء ، وسلمتُ لأمرك ، فرددتها عليَّ بمنّك ، ولك والحمد . ثُمّ قَالَ : يا أخا العراق ! ما فِي الأرض أعظم مِنَّةً منك ، وسيجازيك اللَّه تَعَالَى . فأقام العراقيُّ أيامًا ، وباع عَبْد اللَّه غنمًا لَهُ بثلاثة عشر ألف دينار ، وقَالَ لقهرمانة : احملها إِلَيْهِ ، وقل لَهُ : اعذر واعلم أني لو وصلتكَ بكلِّ ما أملك لرأيتك أهلا لأكثر منه . فرحل العراقيّ محمودًا وافر الْعِرْض والمال .