حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ , حدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيِّ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَاصِمٍ الأَنْطَاكِيِّ ، قَالَ : " إِنِّي أَدْرَكْتُ مِنَ الأَزْمِنَةِ زَمَانًا عَادَ فِيهِ الإِسْلامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ , وَعَادَ وَصْفُ الْحَقِّ فِيهِ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، إِنْ نَزَعْتَ فِيهِ إِلَى عَالِمٍ وَجَدْتَهُ مَفْتُونًا بِالدُّنْيَا , يُحِبُّ التَّعْظِيمَ وَالرِّيَاسَةَ ، وَإِنْ نَزَعْتَ إِلَى عَابِدٍ , وَجَدْتَهُ جَاهِلا فِي عِبَادَتِهِ , مَجْذُومًا صَرِيعًا , عَدُوُّهُ إِبْلِيسُ قَدْ صَعِدَ بِهِ إِلَى أَعْلَى سَطْحٍ فِي الْعِبَادَةِ , وَهُوَ جَاهِلٌ بِأَدْنَاهَا , فَكَيْفَ لَهُ بِأَعْلاهَا ؟ وَسَائِرُ ذَلِكَ مِنَ الرَّعَاعِ فَقَبِيحٌ أَعْوَجُ , وَذِئَابٌ مُخْتَلِسَةٌ , وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ , وَثَعَالِبُ جَارِيَةٌ ، هَذَا وَصْفُ عُيُونِ مِثْلِكَ فِي زَمَانِكَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَدُعَاةِ الْحِكْمَةِ ، وَذَلِكَ أَنِّي لَسْتُ أَرَى عَالِمًا إِلا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ ، بَعِيدًا غَوَّرَ فِطْنَتَهُ لِمَضَرَّتِهِ لأُمُورِ دُنْيَاهُ مُتَّبِعًا هَوَاهُ , مُعْجَبًا بِرَأْيهِ , شَحِيحًا عَلَى دُنْيَاهُ سَمْحًا بِدِينِهِ ، مُتَعَزِّمًا بِمَذْمُومِ الْقَضَاءِ مُعَانِقًا لِهَوَاهُ فِيمَا يَرْضَى غَيْرَ مُتَنَقِّلٍ عَمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ بَلْ مُسْتَزِيدًا مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ وَالْبَلاءِ ، مُحْتَمِلا شَقَاءَ الدُّنْيَا بِالشَّهْوَةِ قَاسِيًا قَلْبُهُ ، عَظِيمًا غَفْلَتُهُ عَمَّا خُلِقَ لَهُ ، مُسْتَبْطِئًا لِمَا يُدْعَى مِمَّا قَدْ ضُمِنَ لَهُ ، غَيْرُ وَاثِقٍ بِاللَّهِ ، مَفْقُودٌ مِنْهُ خَوْفُ مَا قَدِ اسْتَوْجَبَ بِهِ النَّارَ ، مُعْتَرِضٌ لِلْمَوْتِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ ، مَشْغُوفٌ بِدُنْيَاهُ ، غَافِلٌ عَنْ آخِرَتِهِ عَاشِقٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ زَاهِدٌ فِيمَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الشوقِ ، فَكَمَا أَنَّهُ ضَعُفَ يَقِينُهُ فِيمَا يَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ أَمْنُهُ عِنْدَ الْوَعِيدِ ، فَعِنْدَهَا كَانَ نَاسِيًا لِذُنُوبِهِ ذَاكِرًا مَحَاسِنَهُ قَدْ صَيَّرَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَآثَامَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ، دَاخِلا فِيمَا لا يَعْنِيهِ ، مَشْغُوفًا بِالدُّنْيَا لا يُقْنِعُهُ قَلِيلُهَا , وَلا يُشْبِعُهُ كَثِيرُهَا , وَلا يَسْعَى , وَلا يَكْدَحُ إِلا لَهَا ، وَلا يَفْرَحُ , وَلا يَتَزَيَّنُ إِلا لَهَا , وَلا يَرْضَى وَيَسْخَطُ إِلا لَهَا ، رَاضٍ بِحَظِّهِ بِقَلِيلِ حَظِّهِ الْمَتْرُوكِ التَّنَقُّلِ عَنْهُ مِنْ كَثِيرِ حَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ ، بَلْ رَاضٍ بِحَظِّهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ حَظِّهِ مِنْ خَالِقِهِ ، خَائِفٌ مِنْ فَقْرٍ بَدَأَ بِهِ ، آمِنٌ مِنْ مَعَاصٍ قَدْ قَدَّمَهَا , وَعُقُوبَاتٍ قَدِ اسْتَحَقَّهَا ، مُتَزَيِّنٌ لِلْخَلائِقِ بِمَا يُسْقِطُهُ عِنْدَ خَالِقِهِ ، مُؤْيَسٌ مِنْهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ ، مَتُحَرِّزُونَ يَتَزَيَّنُونَ بِالْكَلامِ فِي الْمَجَالِسِ يَتَكَبَّرُونَ فِي مَوَاطِنِ الْغَضَبِ عِنْدَ خِلافِ الْهَوَى ، ذِئَابٌ أَقْرَانٌ عِنْدَ مُمَارَسَةِ الدُّنْيَا ، فَالطَّمَعُ الْكَاذِبُ يَسْتَمِيلُهُ , وَالْهَوَى الْمُرْدِي يُخْلِقُ مُرُوءَتَهُ وَيَسْلُبُهُ نُورَ إِسْلامِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى حَقِيقَةِ خَوْفٍ فَنَزَعَ بِهِ الامْتِحَانُ إِلَى جَوْهَرِهِ وَطِبَاعِهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، فَتَعَقَّلِ الآنَ وَصِفْ مَنْ هَذَا ؟ وَصِفْ عُيُونَ مِلَّتِكَ فِي زَمَانِكَ ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَهُمْ أَوْجَبُ الثَّوَابِ ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ فِي قَسْمِ الْعُقُولِ ، وَلَمْ يَعْذُرْ بِالتَّقْصِيرِ مَنْ ضَيَّعَ شُكْرَهُ وَآثَرَ هَوَاهُ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْهَوَى فَجَعَلَهُ ضِدًّا لِلْعَقْلِ ، وَجَعَلَ لِلْعَقْلِ شَكْلا وَهُوَ الْعِلْمُ ، وَالْهَوَى وَالْبَاطِلُ شَكْلانِ مُؤْتَلِفَانِ قَرِينَانِ يَدْعُوانِ إِلَى مَذْمُومِ الْعَوَاقِبِ لِلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، هَيْهَاتَ يَا أَهْلَ الْعُقُولِ مَنِ الَّذِي يَحْظَرُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَوَاهِبَهُ ، وَمَنْ يَمْنَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْحَةً فَيَجِبُ عَنْهُ , وَمَنِ الَّذِي يَمْنَعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا فَيُوجَدُ عِنْدَهُ ؟ هَلْ لِلْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَاجَةٍ بَعْدَ تَرْكِيبِ جَوَارِحِهِمْ ؟ الْخَيْرُ لِلثَّوَابِ وَالشَّرُّ لِلْعِقَابِ ، فَحَرَكَاتُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي ، فَخَلَقَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الأَسْبَابَ بِلا شَرْحِ تَرْجَمَةٍ مِنَّا جَعَلَهَا بِقُدْرَتِهِ أَضْدَادًا وَلَمْ يَدَعْ مُسْتَغْلَقًا إِلا جَعَلَ لَهُ مِفْتَاحًا ، وَلا شَكْلا إِلا جَعَلَ عَلَيْهِ تِبْيَانًا وَاضِحًا ، فَلا إِلَهَ إِلا الَّذِي خَلَقَ لِلْخَيْرِ أَسْبَابًا لا يَسْتَطِعُ الْعِبَادُ أَنْ يَصِلُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ إِلا بِتِلْكَ الأَسْبَابِ ، وَهِيَ حَاجِزَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي ، إِذْ أَسْكَنَهَا اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَ مَنْ أَحَبَّهُ وَاسْتَعْمَلَهُ بِهِ " .