حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، قَالَ : قَالَ : ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : " وُصِفَ لِي بِالْيَمَنِ رَجُلٌ قَدْ بَرَزَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ ، وَذُكِرَ لِي بِاللُّبِّ وَالْحِكْمَةِ فَخَرَجْتُ حَاجًّا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَمَّا قَضَيْتُ نُسُكِي أَتَيْتُهُ لأَسْمَعَ مِنْ كَلامِهِ وَأَنْتَفِعَ بِمَوْعِظَتِهِ ، فَأَقَمْتُ عَلَى بَابِهِ أَيَّامًا حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ وَكَانَ أَصْفَرَ اللَّوْنِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ، أَعْمَشَ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرُ عَمَشٍ نَاحِلَ الْجِسْمِ مِنْ غَيْرِ سَقَمٍ ، يُحِبُّ الْخَلْوَةَ ، وَيَأْنَسُ إِلَى الْوَحْدَةِ ، تَرَاهُ كَأَنَّهُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِمُصِيبَةٍ ، قَالَ : فَخَرَجَ الشَّيْخُ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى صَلاةِ الْجُمُعَةِ فَاتَّبَعْنَاهُ بِأَجْمَعِنَا لِنُكَلِّمَهُ فَبَادَرَ إِلَيْهِ شَابٌّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَصَافَحَهُ وَأَبْدَى لَهُ التَّرْحِيبَ وَالْبِشْرَ ، فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ : إِنَّ اللَّهَ بَمَنِّهِ وَفَضْلِهِ جَعَلَكَ وَمِثْلَكَ أَطِبَّاءَ لِسِقَامِ الْقُلُوبِ وَمُعَالِجِينَ لأَوْجَاعِ الذُّنُوبِ ، وَبِي جُرْحٌ قَدْ نَغَلَ ، وَدَاءٌ قَدِ اسْتَطَالَ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَلَطَّفَ بِبَعْضِ مَرَاهِمِكَ وَتُعَالِجَنِي بِرِفْقِكَ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ ، قَالَ : مَا عَلامَةُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤَمِّنَ نَفْسَكَ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ ، إِلا الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ ، فَاضْطَرَبَ الشَّابُّ كَمَا تَضْطَرِبُ السَّمَكَةُ فِي شَبَكَةِ الصَّيَّادِ وَالشَّيْخُ قَائِمٌ بِإِزَائِهِ ، ثُمَّ إِنَّ الشَّابَّ رَجَّعَ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، وَقَالَ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَتَى يَتَبَيَّنُ لِلْعَبْدِ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَا بُنَيَّ ، إِذَا أَنْزَلَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ السَّقِيمِ وَهُوَ يَحْتَمِي مِنْ كُلِّ الطَّعَامِ مَخَافَةَ طُولِ الأَسْقَامِ ، قَالَ : فَصَاحَ الشَّابُّ صَيْحَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَوَّهْ عَاقَبْتَ فَأَوْجَعْتَ ، فَقَالَ الشَّيْخُ : بَلْ دَاوَيْتُ فَأَحْسَنْتُ وَعَالَجْتُ فَرَفَقْتُ ، فَمَكَثَ الشَّابُّ سَاعَةً لا يَحِيرُ جَوَابًا ، ثُمَّ إِنَّ الشَّابَّ أَفَاقَ فَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، وَقَالَ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلامَةُ الْمُحِبِّ لِلَّهِ ؟ قَالَ : فَانْتَفَضَ الشَّيْخُ فَزَعًا ، وَجَرَتِ الدُّمُوعُ عَلَى وَجْهِهِ كَنِظَامِ اللُّؤْلُؤِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا شَابُّ ، إِنَّ دَرَجَةَ الْحُبِّ دَرَجَةٌ سَنِيَّةٌ بَهِيَّةٌ رَفِيعَةٌ ، قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَصِفَهَا لِي ، قَالَ : إِنَّ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ شَقَّ لَهُمْ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، فَأَبْصَرُوا بِنُورِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ ، فَصَارَتْ أَبْدَانُهُمْ دُنْيَوِيَّةً وَقُلُوبُهُمْ سَمَاوِيَّةً ، وَأَرْوَاحُهُمْ حُجُبِيَّةً ، وَعُقُولُهُمْ نُورَانِيَّةً ، تَسْرَحُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمَلائِكَةِ بِالْعِيَانِ ، وَتُشَاهِدُ تِلْكَ الأُمُورَ بِالتَّحْقِيقِ وَالْبَيَانِ ، فعَبْدُوا اللَّهَ بِمَبْلِغَ اسْتِطَاعَتِهِمْ لا لِجَنَّةٍ وَلا لِنَارٍ ، قَالَ : فَصَاحَ الشَّابُّ صَيْحَةً ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَحَرَّكْنَاهُ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ فَارَقَ الدُّنْيَا ، فَانْكَبَّ الشَّيْخُ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَيَبْكِي وَيَقُولُ : هَذَا مَصْرَعُ الْخَائِفِينَ ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ الْمُتَّقِينَ " .