محمد بن الفضل


تفسير

رقم الحديث : 15573

وَقَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُبَيْشٍ ، فَقُلْتُ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : " سَأَلْتُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَأَسْبَابِهَا فَالْمَعْرِفَةُ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ هِيَ مَعْرِفَةٌ وَاحِدَةٌ ، لأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِهَا وَاحِدٌ وَلَكِنْ لَهَا أَوَّلُ وَأَعْلَى فَالْخَاصَّةُ فِي أَعْلاهَا وَإِنْ كَانَ لا يَبْلُغُ مِنْهَا غَايَةً وَلا نِهَايَةً ، إِذْ لا غَايَةَ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ ، وَكَيْفَ تُحِيطُ الْمَعْرِفَةُ بِمَنْ لا تَلْحَقُهُ الْفِكْرَةُ وَلا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ ، وَلا تَتَوَهَّمُهُ الأَذْهَانُ وَلا تُكَيِّفُهُ الرُّؤْيَةُ ؟ وَأَعْلَمُ خَلْقِهِ بِهِ أَشَدُّهُمْ إِقْرَارًا بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ عَظَمَتِهِ أَوْ تَكَشُّفِ ذَاتِهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِعَجْزِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَنْ لا شَيْءَ مِثْلُهُ ، إِذْ هُوَ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ ، وَإِذْ هُوَ الأَزِلِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُبْدَأُ ، وَإِذْ هُوَ الإِلَهُ وَمَا سِوَاهُ مَأْلُوهٌ ، وَإِذْ هُوَ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ مُقَوٍّ وَكُلُّ قَوِيٍّ فَبِقُوَّتِهِ قَوِيٌّ ، وَإِذْ هُوَ الْعَالِمُ مِنْ غَيْرِ مُعَلِّمٍ ، وَلا فَائِدَةَ اسْتَفَادَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَكُلُّ عَالِمٍ فَبِعِلْمِهِ عَلِمَ ، سُبْحَانَهُ الأَوَّلُ بِغَيْرِ بِدَايَةٍ ، وَالْبَاقِي إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ ، وَلا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُهُ وَلا يَلِيقُ بِسِوَاهُ فَأَهْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي أَعْلَى الْمَعْرِفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغُوا مِنْهَا غَايَةً وَلا نِهَايَةً ، وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِهَا وَلَهَا شَوَاهِدُ وَدَلائِلُ مِنَ الْعَارِفِينَ عَلَى أَعْلاهَا وَعَلَى أَدْنَاهَا ، فَالشَّاهِدُ عَلَى أَدْنَاهَا الإِقْرَارُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَخَلْعِ الأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِكِتَابِهِ وَفَرْضِهِ فِيهِ وَنَهْيِهِ ، وَالشَّاهِدُ عَلَى أَعْلاهَا الْقِيَامُ فِيهِ بِحَقِّهِ ، وَاتِّقَاؤُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِيثَارُهُ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ وَاتِّبَاعُ مَعَالِي الأَخْلاقِ وَاجْتِنَابُ مَا لا يُقْرَبُ مِنْهُ ، فَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي فَضَّلَتِ الْخَاصَّةَ عَلَى الْعَامَّةِ هِيَ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِعَظِيمِ الْقَدْرِ وَالإِجْلالِ ، وَالْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ ، وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ ، وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالآلاءِ ، فَعَظُمَ فِي قُلُوبِهِمْ قَدْرُهُ وَقَدْرُ جَلالَتِهِ ، وَهَيْبَتُهُ وَنَفَاذُ قُدْرَتِهِ ، وَأَلِيمُ عَذَابِهِ وَشِدَّةُ بَطْشِهِ وَجَزِيلُ ثَوَابِهِ ، وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ بِجَنَّتِهِ وَتَحَنُّنِهِ وَكَثْرَةُ أَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ، فَلَمَّا عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ عَظْمُ الْقَادِرُ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَجَلُّوهُ وَهَابُوهُ وَأَحَبُّوهُ وَاسْتَحْيَوْا مِنْهُ وَخَافُوهُ وَرَجَوْهُ ، فَقَامُوا بِحَقِّهِ وَاجْتَنَبُوا كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَعْطَوْهُ الْمَجْهُودَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ ، أَزْعَجَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ عَظِيمِ الْمَعْرِفَةِ ، بِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ فَهُمْ أَهْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ ، فَلِذَلِكَ قِيلَ : فُلانٌ بِاللَّهِ عَارِفٌ ، وَفُلانٌ بِاللَّهِ عَالِمٌ ، لَمَّا رَأَوْهُ مُجِلا هَائِبًا ، رَاهِبًا رَاجِيًا ، طَالِبًا مُشْتَاقًا ، وَرِعًا مُتَّقِيًا ، بَاكِيًا حَزِينًا ، خَاضِعًا مُتَذَلِّلا ، فَلَمَّا ظَهَرَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الأَخْلاقُ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ بِاللَّهِ أَعْرِفُ وَأَعْلَمُ مِنْ عَوَّامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ سورة فاطر آية 28 ، وَقَالَ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلامُ : إِلَهِي مَا عَلِمَ مَنْ لَمْ يَخْشَكَ فَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي فَضُلَتْ بِهَا الْخَاصَّةُ الْعَامَّةَ هِيَ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ ، فَإِذَا عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتْ وَلَزِمَتِ الْقُلُوبَ ، صَارَتْ يَقِينًا قَوِيًّا فَكَمُلَتْ حِينَئِذٍ أَخْلاقُ الْعَبْدِ ، وَتَطَهَّرَ مِنَ الأَدْنَاسِ ، فَنَالَ بِهِ عَظِيمَ الْمَعْرِفَةِ بِعَظِيمِ الْقَدْرِ وَالْجَلالِ وَالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ ، كَيْفَ خَلَقَهُمْ وَأَتْقَنَ صَنْعَتَهُمْ ؟ وَفِي الْمَقَادِيرِ كَيْفَ قَدَّرَهَا فَاتَّسَقَتْ عَلَى الْهَيْئَاتِ الَّتِي هَيَّأَهَا وَالأَوْقَاتِ الَّتِي وَقَّتَهَا ، وَفِي الأُمُورِ كَيْفَ دَبَّرَهَا عَلَى إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ؟ فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهَا شَيْءٌ عَنِ الْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ وَالاتِّسَاقِ عَلَى مَشِيئَتِهِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ النَّظَرَ فِيَ الْقُدْرَةِ يفْتَحُ بَابَ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِي الْقَلْبِ ، وَمَرَّ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ بِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : عِظْنَا رَحِمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ : بِمَ أَعِظُكَ ؟ إِنَّكَ لَوْ عَرَفْتَ اللَّهَ أَغْنَاكَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ كَلامٍ ، لَكِنْ عَرَفُوهُ عَلَى دَلالَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا نَظَرُوا فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَدَوَرَانِ هَذَا الْفَلَكِ ، وَارْتِفَاعِ هَذَا السَّقْفِ بِلا عَمَدٍ ، وَمَجَارِي هَذِهِ الأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ عَلِمُوا أَنَّ لِذَلِكَ صَانِعًا وَمُدْبِرًا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ أَعْمَالِ خَلْقِهِ فعَبْدُوهُ بِدَلائِلِهِ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوهُ ، وَاللَّهُ فِي دَارِ جَلالِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ بِعَظِيمِ قَدْرِهِ أَعْرَفُ وَأَعْلَمُ إِذْ هُمْ لَهُ أَجَلَّ وَأَهْيَبُ " .

الرواه :

الأسم الرتبة

Whoops, looks like something went wrong.