الحارث بن اسد المحاسبي


تفسير

رقم الحديث : 15096

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ وَقِيلَ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا عَلامَةُ الأُنْسِ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : " التَّوَحُّشُ مِنَ الْخَلْقِ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا عَلامَةُ التَّوَحُّشِ مِنَ الْخَلْقِ ؟ قَالَ : الْفِرَارُ إِلَى مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ ، وَالتَّفَرُّدُ بِعُذُوبَةِ الذِّكْرِ فَعَلَى قَدْرِ مَا يَدْخُلُ الْقَلْبَ مِنَ الأُنْسِ بِذِكْرِ اللَّهِ يَخْرُجُ التَّوَحُّشُ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي مُنَاجَاتِهِ : يَا مَنْ آنَسَنِي بِذِكْرِهِ وَأَوْحَشَنِي مِنْ خَلْقِهِ ، وَكَانَ عِنْدَ مَسَرَّتِي ارْحَمْ عَبْرَتِي ، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِدَاودَ عَلَيْهِ السَّلامُ : كُنْ بِي مُسْتَأْنِسًا وَمِنْ سِوَايَ مُسْتَوْحِشًا " ، وَقِيلَ لِبَعْضِ الْمُتَعَبِّدِينَ : مَا فَعَلَ فُلانٌ ؟ قَالَ : أَنِسَ فَتَوَحَّشَ ، وَقِيلَ لِرَابِعَةَ : بِمَ نِلْتِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ ؟ قَالَتْ : بِتَرْكِي مَا لا يَعْنِينِي وَأُنْسِي بِمَنْ لَمْ يَزَلْ ، وَقَالَ ذُو النُّونِ فِي بَعْضِ كَلامِهِ : يَا أَنِيسَ كُلِّ مُنْفَرِدٍ بِذِكْرِكَ ، وَجَلِيسَ كُلِّ مُتَوَحِّدٍ بِحُبِّكَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ لرَّاهِبُ : يَا رَاهِبُ لَقَدْ تَعَجَّلْتَ الْوَحْدَةَ ، فَقَالَ الرَّاهِبُ : يَا فَتَى لَوْ ذُقْتَ حَلاوَةَ الْوَحْدَةِ لاسْتَوْحَشْتَ إِلَيْهَا مِنْ نَفْسِكِ ، الْوَحْدَةُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ مَا أَنْسَتْهَا الْفِكْرَةَ ، قَالَ : يَا رَاهِبُ ، مَا أَقَلُّ مَا يَجِدُ الْعَبْدُ فِي الْوَحْدَةِ ؟ قَالَ : الرَّاحَةُ مِنْ مُدَارَاةِ النَّاسِ وَالسَّلامَةُ مِنْ شَرِّهِمْ , قَالَ : يَا رَاهِبُ ، مَتَى يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلاوَةَ الأُنْسِ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : إِذَا صَفَا الْوُدُّ وَخَلُصَتِ الْمُعَامَلَةُ ، قَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، مَتَى يَصْفُو الْوُدُّ ؟ قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فَصَارَ فِي الطَّاعَةِ ، قُلْتُ : مَتَى تَخْلُصُ الْمُعَامَلَةُ ؟ قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فَصَارَهَمًّا وَاحِدًا ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَجَبًا لِلْخَلائِقِ كَيْفَ أَرَادُوا بِكَ بَدَلا ؟ وَعَجَبًا لِلْقُلُوبِ كَيْفَ اسْتَأْنَسَتِ بِسِوَاكَ عَنْكَ ؟ اللَّهُمَّ آنَسْتَ الآنِسِينَ مِنْ أَوْلِيَائِكِ وَخَصَصْتَهُمْ بِكِفَايَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَسِتْرِي عِنْدَكَ مَكْشُوفٌ وَأَنَا إِلَيْكَ مَلْهُوفٌ ، فَإِذَا أَوْحَشَتْنِي الْعُزْلَةُ آنَسَنِي ذِكْرُكَ ، وَإِذَا كَثُرَتْ عَلَيَّ الْهُمُومُ رَجَعْتُ إِلَى الاسْتِجَارَةِ بِكَ ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : جِئْتُ مِنْ أُنْسِ الرَّحْمَنِ ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَوْ أَنَّ مَعِي أُنْسًا لَتَوَحَّشْتُ ، قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلامَةُ صِحَّةِ الأُنْسِ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : ضِيقُ الصَّدْرِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْخَلْقِ وَالتَّبَرُّمُ بِهِمْ وَاخْتِيَارُ الْقَلْبِ عُذُوبَةَ الذِّكْرِ , قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلامَتُهُ فِي ظَاهِرِهِ ؟ قَالَ : مُنْفَرِدٌ فِي جَمَاعَةٍ ، وَمُسْتَجْمِعٌ فِي خَلْوَةٍ ، وَغَرِيبٌ فِي حَضَرٍ ، وَحَاضِرٌ فِي سَفَرٍ ، وَشَاهِدٌ فِي غَيْبَةٍ ، وَغَائِبٌ فِي حُضُورٍ ، قِيلَ : اشْرَحْ عَنْ وَصْفِ هَذَا مَا مَعْنَى مُنْفَرِدٍ فِي جَمَاعَةٍ وَمُسْتَجْمِعٍ فِي خَلْوَةٍ ؟ قَالَ : مُنْفَرِدٌ بِالذِّكْرِ مَشْغُولٌ بِالْفِكْرِ لِمَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْهَمِّ مِنَ الشُّغْلِ وَطِيبِ عُذُوبَةِ الذِّكْرِ وَحَلاوَتِهِ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ شَاهِدٌ مَعَهُمْ بِبَدَنِهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فِي حَدِيثِ كُهَيْلِ بْنِ زِيَادٍ ، فَقَالَ : هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَنْ حَقِيقَةِ الأَمْرِ فَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ فَاسْتَلانُوا مَا اسْتَوْعَدَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ قُلُوبُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الأَعْلَى ، وَبِأَعْلَى الْعُلَى عِنْدَ الْمَلِكِ الْعَالِي فَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنْفَرِدِ فِي جَمَاعَةٍ ، قِيلَ : فَمَا الْمُسْتَجْمِعُ فِي خَلْوَةٍ ؟ قَالَ : مُسْتَجْمِعٌ لَهُ بِهِمَّةٍ قَدْ جَمَعَ الْهُمُومَ فَصَيَّرَهَا هَمًّا وَاحِدًا فِي قَلْبِهِ فَاسْتَجْمَعَتْ لَهُ الْهُمُومُ فِي مُشَاهَدَةِ الاعْتِبَارِ وَحُسْنِ الْفِكْرِ فِي نَفَاذِ الْقُدْرَةِ فَهُوَ مُسْتَجْمِعٌ لِلَّهِ بِعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَوَهْمِهِ كُلِّهِ ، وَكُلُّ جَوَارِحِهِ مُسْتَجْمَعَةٌ مُنْتَصِبَةٌ لِدَوَامِ الذِّكْرِ إِلَى وُجُودِ لُحُوقِ الْبَصِيرَةِ وَعِوَضِ الْفِطْنَةِ وَسَعَةِ الْمَعُونَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ مُتَفَرِّقًا وَلا وَهْمٌ مُعَطَّلا وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُسْتَجْمِعِ فِي انْفِرَادِهِ ، قِيلَ : فَمَا مَعْنَى غَائِبٍ فِي حُضُورٍ ؟ قَالَ : غَائِبٌ بِوَهْمِهِ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فَمَعْنَى غَائِبٍ أَيْ غَائِبٌ عَنْ أبَصْارِ النَّاظِرِينَ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فِي مُرَاعَاةِ الْعَارِفِينَ " .

الرواه :

الأسم الرتبة