أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْفُرَاوِيُّ الْفَقِيهُ ، أَنْبَأَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّابُونِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَيْهَقِيُّ . أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الْحَافِظُ ، أَنْبَأَنَا وَالِدِي أَبُو صَالِحٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ الْمُؤَذِّنُ ، قَالُوا : أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ السُّلَمِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْخَالِدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ عِيسَى الْبِسْطَامِيُّ ، بِمَكَّةَ ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ ، وَأَبُو صَالِحٍ مِنْ حِفْظِهِ ، قَالُوا : وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلاثِمِائَةٍ عَلَى بَابِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الأَخْبَارِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبِي عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَسَقَطَ مِنْ حَدِيثِ الصَّابُونِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَدِمَ الْجَارُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ ، مُطَاعًا عَظِيمًا فِي عَشِيرَتِهِ ، مُطَاعَ الأَمْرِ ، رَفِيعَ الْقَدْرِ ، عَظِيمَ الْخَطَرِ ، ظَاهِرَ الأَدَبِ ، شَامِخَ الْحَسَبِ ، بَدِيعَ الْجَمَالِ ، حَسَنَ الْفِعَالِ ، ذَا مَنَعَةٍ وَمَالٍ ، فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ ذَوِي الأَخْطَارِ وَالأَقْدَارِ ، وَالْفَضْلِ وَالإِحْسَانِ ، وَالْفَصَاحَةِ وَالرُّهْبَانِ ، كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ عَلَى نَاقَةٍ كَالْفَحْلِ الْعَتِيقِ قَدْ جَنَّبُوا الْجِيَادَ وَأَعَدُّوا لِلْجِلادِ ، مُجِدِّينَ فِي مَسِيرِهِمْ ، حَازِمِينَ فِي أَمْرِهِمْ ، يَسِيرُونَ ذَمِيلا ، يَقْطَعُونَ مِيلا فَمِيلا ، حَتَّى أَنَاخُوا عِنْدَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقْبَلَ الْجَارُودُ عَلَى قَوْمِهِ وَالْمَشَايِخُ مِنْ بَنِي عَمِّهِ ، فَقَالَ : يَا قَوْمُ ، هَذَا مُحَمَّدٌ الأَغَرُّ سَيِّدُ الْعَرَبِ ، وَخَيْرُ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ ، وَوَقَفْتُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَأَحْسِنُوا عِنْدَهُ السَّلامَ ، وَأَقِلُّوا عِنْدَهُ الْكَلامَ ، فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ : أَيُّهَا الْمَلِكُ الْهُمَامُ ، وَالأَسَدُ الضِّرْغَامُ لَنْ نَتَكَلَّمَ إِذَا حَضَرْتَ ، وَلَنْ نُجَاوِزَ مَا أَمَرْتَ ، فَقُلْ مَا شِئْتَ ، فَإِنَّا سَامِعُونَ ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّا تَابِعُونَ ، وَقَالَ الصَّابُونِيُّ : مُبَايِعُونَ ، فَنَظَرَ الْجَارُودُ فِي كُلِّ كَمِيٍّ صِنْدِيدٍ ، قَدْ دَوَّمُوا الْعَمَائِمَ ، وَتَزُّوا بِالصَّوَارِمِ يَجُرُّونَ أَسْيَافَهُمْ ، وَيَسْتَحِبُونَ أَذْيَالَهُمْ ، يَتَنَاشَدُونَ الأَشْعَارَ ، وَيَتَذَاكَرُونَ مَنَاقِبَ الأَخْيَارِ ، لا يَتَكَلَّمُونَ طَوِيلا ، وَلا يَسْكُتُونَ عِيًّا ، إِنْ أَمَرَهُمُ ائْتَمَرُوا ، وَإِنْ زَجَرَهُمُ ازْدَجَرُوا ، وَقَالَ الصَّابُونِيُّ : انْزَجَرُوا كَأَنَّهُمْ أُسْدٌ يَقْدُمُهَا ذُو لِبْدَةٍ مَهُولٌ ، حَتَّى مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَوْمُ الْمَسْجِدَ ، وَأَبْصَرَهُمْ أَهْلُ الْمَشْهَدِ دَلَفَ الْجَارُودُ أَمَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَحَسَرَ لِثَامَهُ وَأَحْسَنَ سَلامَهُ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : يَا نَبِيَّ الْهُدَى أَتَتْكَ رِجَالٌ قَطَعَتْ فَدْفَدًا وَآلا فَآلا وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَهْمَهًا : وَطَوَتْ نَحْوَكَ الصَّحَاصِحَ طُرًّا لا تَخَالُ الْكَلالَ قَبْلَ كَلالا كُلُّ دَهْمَاءَ يَقْصُرُ الطَّرْفُ عَنْهَا أَرْقَلَتْهَا قِلاصُنَا إِرْقالا وَطَوَتْهَا الْجِيَادُ تُحَمْحِمُ فِيهَا بِكُمَاةٍ كَأَنْجُمٍ تِتْلالا تَبْتَغِي دَفْعَ بَأْسِ يَوْمٍ عَبُوسٍ أَوْجَلَ الْقَلْبَ ذِكْرُهُ ثُمَّ هَالا فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا ، وَقَرَّبَهُ ، وَأَدْنَاهُ ، وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ ، وَحَيَّاهُ ، وَأَكْرَمَهُ ، وَقَالَ : " يَا جَارُودُ ، لَقَدْ تَأَخَّرَ بِكَ ، وَبِقَوْمِكَ الْمَوْعِدُ ، وَطَالَ بِكُمُ الأَمَدُ " ، قَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَكَ قَصْدُهُ ، وَعُدِمَ رَشْدُهُ ، وَتِلْكَ ايْمُ اللَّهِ أَكْبَرُ خَيْبَةٍ ، وَأَعْظَمُ حَوِيَّةٍ ، وَالرَّائِدُ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ ، وَلا يَغُشُّ نَفْسَهُ ، لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ ، وَنَطَقْتَ بِالصِّدْقِ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا ، وَاخْتَارَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِيًّا لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ فِي الإِنْجِيلِ ، وَلَقَدْ بَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ ، فَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ وَأَرْسَلَكَ ، لا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ ، وَلا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ ، مُدَّ يَدَكَ ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ : فَآمَنَ الْجَارُودُ ، وَآمَنَ مِنْ قَوْمِهِ كُلُّ سَيِّدٍ ، فَسُرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرُورًا ، وَابْتَهَجَ حُبُورًا ، وَقَالَ : " يَا جَارُودُ ، هَلْ فِي جَمَاعَةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مَنْ يَعْرِفُ لَنَا قُسًّا ؟ " ، قَالَ : كُلُّنَا نَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا مِنْ بَيْنِ قَوْمِي كُنْتُ أَقْفُو أَثَرَهُ ، وَأَطْلُبُ خَبَرَهُ ، كَانَ قُسُّ سِبْطًا مِنْ أَسْبَاطِ الْعَرَبِ ، صَحِيحَ النَّسَبِ ، فَصِيحًا إِذَا خَطَبَ ، ذَا شَيْبَةٍ حَسَنَةٍ ، عَمَّرَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةً ، يَتَقَفَّرُ الْقِفَارَ ، لا تَكِنُّهُ دَارٌ ، وَلا يُقِرُّهُ قَرَارٌ ، يَتَحَسَّى فِي تَقَفُّرِهِ بَيْضَ النَّعَامِ ، وَيَأْنَسُ بِالْوَحْشِ وَالْهَوَامِ ، يَلْبَسُ الْمُسُوحَ ، وَيَتَّبِعُ السُّيَّاحَ عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ ، لا يَفْتُرُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ ، يُقِرُّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ ، يُضْرَبُ بِحِكْمَتِهِ الأَمْثَالُ ، وَيُكْشَفُ بِهِ الأَهْوَالُ ، وَتَتَّبِعُهُ الأَبْدَالُ ، أَدْرَكَ رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ سَمْعَانَ ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَأَلَّهَ مِنَ الْعَرَبِ ، وَأَعْبَدُ مَنْ تَعَبَّدَ فِي الْحِقَبِ ، وَأَيْقَنَ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ ، وَحَذَّرَ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ وَالْمَآبِ ، وَوَعَظَ بِذِكْرِ الْمَوْتِ ، وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ الْفَوْتِ . الْحَسَنُ الأَلْفَاظِ ، الْخَاطِبُ بِسُوقِ عُكَاظٍ ، الْعَالِمُ بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ ، وَيَابِسٍ وَرَطْبٍ ، أُجَاجٍ وَعَذْبٍ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَالْعَرَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، يُقْسِمُ بِالرَّبِّ الَّذِي هُوَ لَهُ لَيَبْلُغَنَّ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، وَلَيُوَفَّيَنَّ كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : هَاجَ لِلْقَلْبِ مِنْ جَوَاهُ ادِّكَارُ وَلَيَالٍ خِلالَهُنَّ نَهَارُ وَنُجُومٌ يَحُثُّهَا قَمَرُ اللَّيْلِ وَشَمْسٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُدَارُ ضَوْءُهَا يَطْمِسُ الْعُيُونَ وَإِرْعَادٌ شَدِيدٌ فِي الْخَافِقِينَ مَطَارُ وَغُلامٌ وَأَشْمَطٌ وَرَضِيعٌ كُلُّهُمْ فِي التُّرَابِ يَوْمًا يُزَارُ وَقُصُورٌ مَشِيدَةٌ حَوَتِ الْخَيْرَ وَأُخْرَى خَلَتْ لَهُنَّ قِفَارُ وَكَثِيرٌ مِمَّا يَقْصُرُ عَنْهُ جَوْسَةُ النَّاظِرِ الَّذِي لا يَحَارُ وَالَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ دَلَّ عَلَى اللَّهِ نُفُوسًا لَهَا هُدًى وَاعْتِبَارُ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " عَلَى رِسْلِكَ يَا جَارُودُ ، فَلَسْتُ أَنْسَاهُ بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ مُوَثَّقٍ مَا أَظُنُّ أَنِّي أَحْفَظُهُ ، فَهَلْ فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مَنْ يَحْفَظُ لَنَا مِنْهُ شَيْئًا ؟ " ، وَقَالَ الصَّابُونِيُّ : يَحْفُظُهُ ، فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَائِمًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَحْفَظُهُ ، وَكُنْتُ حَاضِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ بِسُوقِ عُكَاظٍ حِينَ خَطَبَ ، فَأَطْنَبَ ، وَرَغَّبَ ، وَرَهَّبَ ، وَحَذَّرَ ، وَأَنْذَرَ ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ ، اسْمَعُوا وَعُوا ، وَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا ، إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ ، وَكُلَّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ ، نَبَاتٌ وَمَطَرٌ ، وَأَرْزَاقٌ وَأَقْوَاتٌ ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ ، وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتٌ ، جَمِيعٌ وَأَشْتَاتٌ ، وَآيَاتٌ بَعْدَ آيَاتٍ ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا ، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرًا ، لَيْلٌ دَاجٍ ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ ، وَأَرْضٌ ذَاتُ ارْتِيَاجٍ ، وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ ، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلا يَرْجِعُونَ ؟ أَرَضُوا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا ؟ أَمْ تُرِكُوا هُنَاكَ فَنَامُوا ؟ أُقْسِمُ قَسَمًا حَقًّا لا حَانِثًا فِيهِ وَلا آثِمًا ، إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، وَنَبِيًّا قَدْ حَانَ حِينُهُ ، وَأَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ ، وَأَدْرَكَكُمْ أَبَانُهُ ، فَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِهِ فَهَدَاهُ ، فَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : تَبًّا لأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ مِنَ الأُمَمِ الْخَالِيَةِ ، وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ ، يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ مِنَ الأَبِ وَالأَجْدَادِ ، مِنَ الْمَرِيضِ وَالْعُوَّادِ ؟ وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ ؟ أَيْنَ مَنْ بَنَى وَشَيَّدَ ؟ وَزَخْرَفَ وَجَدَّدَ ؟ وَغَرَّهُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ ؟ أَيْنَ مَنْ طَغَى وَبَغَى ؟ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ؟ وَقَالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ؟ أَلَمْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالا ؟ وَأَبْعَدَ مِنْكُمْ آمَالا ؟ وَأَطْوَلَ مِنْكُمْ آجَالا ؟ طَحَنَهُمُ الثَّرَى بِكَلْكَلِهِ ، وَمَزَّقَهُمْ بِتَطَاوِلِهِ ، فَبَلَتْ عِظَامُهُمْ بَالِيَةٌ ، وَبُيُوتُهُمْ خَالِيَةٌ ، وَعَمَرَتْهَا الذِّيَابُ الْعَادِيَةُ ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ : الْعَاوِيَةُ كَلا ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ ، لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلا مَوْلُودٌ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرُ لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرُ وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا تَمْضِي الأَصَاغِرُ الأَكَابِرُ لا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرُ أَيْقَنْتُ أَنِّي لا مَحَالَةَ حَيْثُ يَصِيرُ الْقَوْمُ صَائِرُ قَالَ : فَجَلَسَ ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ ، زَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مِنَ الأَنْصَارِ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ جَبَلٍ ثُمَّ اتَّفَقَا ، فَقالا : ذُو هَامَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَقَامَةٍ جَسِيمَةٍ ، قَدْ دَوَّمَ عِمَامَتَهُ ، وَأَرْخَى ذُؤَابَتَهُ ، مَنِيفٌ ، أَنُوفٌ ، أَشْدَقُ ، حَسَنُ الصَّوْتِ ، فَقَالَ : يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ ، وَصَفْوَةَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ قُسٍّ عَجَبًا ، وَشَهِدْتُ مِنْهُ مَرْغَبًا ، فَقَالَ : " وَمَا الَّذِي رَأَيْتَهُ مِنْهُ وَحَفِظْتَهُ عَنْهُ ؟ " ، فَقَالَ : خَرَجْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي شَرَدَ مِنِّي أَقْفُو أَثَرَهُ ، وَأَطْلُبُ خَبَرَهُ فِي تَنَائِفَ ، وَقَالَ الصَّابُونِيُّ ، وَإِسْمَاعِيلُ : فِي فَيَافِي ، وَقالا : حَقَائِفُ ذَاتُ دَعَادِعَ وَزَعَازِعَ ، وَلَيْسَ بِهَا الرَّكْبُ ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ : لَيْسَ لِلرَّكْبِ فِيهَا مَقِيلٌ ، وَلا لِغَيْرِ الْجِنِّ سَبِيلٌ ، وَإِذَا بِمَوْئِلٍ مَهُولٍ فِي طَوْدٍ عَظِيمٍ لَيْسَ بِهِ إِلا الْبُومُ ، وَأَدْرَكَنِي اللَّيْلُ فَوَلِجْتُهُ مَذْعُورًا لا آمَنُ فِيهِ حَتْفِي ، وَلا أَرْكَنُ إِلَى غَيْرِ سَيْفِي ، فَبِتُّ بِلَيْلٍ طَوِيلٍ كَأَنَّهُ بِلَيْلٍ مَوْصُولٍ أَرْقُبُ الْكَوْكَبَ ، وَأَرْمُقُ الْغَيْهَبَ ، حَتَّى إِذَا عَسْعَسَ اللَّيْلُ ، وَكَانَ الصُّبْحُ أَنْ يَتَنَفَّسَ ، هَتَفَ بِي هَاتِفٌ يَقُولُ : يَأَيُّهَا الرَّاقِدُ فِي اللَّيْلِ الأَحَمِّ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي الْحَرَمِ مِنْ هَاشِمٍ أَهْلِ الْوَفَاءِ وَالْكَرَمِ يَجْلُو دُجُنَّاتِ الدَّيَاجِي وَالْبُهَمِ قَالَ : فَأَدَرْتُ طَرْفِي ، فَمَا رَأَيْتُ لَهُ شَخْصًا ، وَلا سَمِعْتُ لَهُ فَحْصًا ، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ : يَأَيُّهَا الْهَاتِفُ فِي دَاجِي الظُّلَمْ أَهْلا وَسَهْلا بِكَ مِنْ طَيْفٍ أَلَمّ بَيِّنْ هَدَاكَ اللَّهُ فِي لَحْنِ الْكَلِمْ مَاذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ يُغْتَنَمْ قَالَ : فَإِذَا أَنَا بِنَحْنَحَةٍ ، وَقَائِلٍ يَقُولُ : ظَهَرَ النُّورُ ، وَبَطَلَ الزُّورُ ، وَبَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِ ، صَاحِبَ النَّجِيبِ الأَحْمَرِ ، وَالتَّاجِ وَالْمِغْفَرِ ، وَالْوَجْهِ الأَزْهَرِ ، وَالْحَاجِبِ الأَقْمَرِ ، وَالطَّرْفِ الأَحْوَرِ ، صَاحِبِ قَوْلِ شَهَادَةِ : أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، فَذَلِكَ مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ إِلَى الأَسْوَدِ وَالأَبْيَضِ ، أَهْلِ الْمَدَرِ وَالْوَبَرِ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ عَبَثْ لَمْ يَخُلْنَا حِينًا سُدًى مِنْ بَعْدِ عِيسَى وَاكْتَرَثْ أَرْسَلَ فِينَا مُحَمَّدًا خَيْرَ نَبِيٍّ قَدْ بُعِثْ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ مَا حَجَّ لَهُ رَكْبٌ وَحَثْ قَالَ : فَذَهَلْتُ عَنِ الْبَعِيرِ ، وَأَلْبَسَنِي السُّرُورُ ، وَلاحَ الصَّبَاحُ ، وَاتَّسَعَ الإِيضَاحُ ، فَتَرَكْتُ الْمَوْرَ ، وَأَخَذْتُ الْجَبَلَ ، فَإِذَا أَنَا بِالْعَتِيقِ يُشَقْشِقُ إِلَى النُّوقِ ، فَأَخَذْتُ بِخِطَامِهِ ، وَعَلَوْتُ سِنَامَهُ ، فَمَرَحَ طَاعَةً ، وَهَزَزْتُهُ سَاعَةً حَتَّى إِذَا لَغَبَ وَذَلَّ مِنْهُ مَا صَعُبَ ، وَحَمِيَتِ الْوِسَادَةُ ، وَبَرَدَتِ الْمَزَادَةُ ، فَإِذَا الزَّادُ قَدْ هَشَّ لَهُ الْفُؤَادُ . بَرَكْتُهُ فَبَرَكَ ، وَأَذِنْتُ لَهُ فَتَرَكَ ، فِي رَوْضَةٍ خَضِرَةٍ نَضِرَةٍ عَطِرَةٍ ، ذَاتِ حَوْذَانٍ ، وَقُرْبَانٍ ، وَعَنْقَرَانٍ ، وَعُبَيْثِرَانٍ ، زَادَ إِسْمَاعِيلُ : نَعْنَعٍ وَشِيحٍ ، وَقالا : وَحُلِيٍّ ، وَأَقَاحٍ ، وَجَثْجَاثٍ ، وَبِرَارٍ ، وَشَقَائِقَ ، وَبَهَارٍ ، كَأَنَّمَا قَدْ مَاتَ الْجَوُّ بِهَا مَطِيرًا ، أَوْ بَاكَرَهَا الْمُزْنُ بُكُورًا ، فَخَلا لَهَا شَجَرٌ ، وَقَرَارُهَا نَهَرٌ ، فَجَعَلَ يَرْتَعُ أَبًّا ، وَأَصِيدُ ضَبًّا ، حَتَّى إِذَا أَكَلَ وَأَكَلْتُ ، وَنَهَلْتُ وَنَهَلَ ، وَعَلَلْتُ وَعَلَّ ، وَحَلَلْتُ عِقَالَهُ ، وَعَلَوْتُ جَلالَهُ ، وَأَوْسَعْتُ مَجَالَهُ ، فَاغْتَنَمَ الْحَمْلَةَ ، وَمَرَّ كَالنَّبْلَةِ يَسْبِقُ الرِّيحَ وَيَقْطَعُ عَرْضَ الْفَسِيحِ ، حَتَّى أَشْرَفَ بِي عَلَى وَادٍ وَشَجَرٍ ، مِنْ شَجَرِ عَادٍ مُورِقَةٍ مُونِقَةٌ ، قَدْ تَهَدَّلَ أَغْصَانُهَا ، كَأَنَّ بَرِيرَهَا حَبُّ فُلْفُلٍ ، فَدَنَوْتُ ، فَإِذَا أَنَا بِقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ بِيَدِهِ قَضِيبٌ مِنْ أَرَاكٍ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ ، وَهُوَ يَتَرَنَّمُ وَيُشْعِرُ ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ ، وَأَبُو صَالِحٍ ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا نَاعِي الْمَوْتَ وَالْمَلْحُودُ فِي جَدَثٍ عِلْمُهُمْ مِنْ بَقَايَا بَزِّهِمْ خِرَقُ دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يُصَاحُ لَهُمْ فَهُمْ إِذَا انْتَبَهُوا مِنْ يَوْمِهِمْ فَرَقُ حَتَّى يَعُودُوا بِحَالٍ غَيْرِ حَالِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا مِنْ قَبْلِهِ خَلْقُ مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْمُنْهَجُ الْخَلِقُ قَالَ : فَدَنَوْتُ مِنْهُ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ ، وَإِذَا أَنَا بِعَيْنٍ خَرَّارَةٍ فِي الأَرْضِ خَوَّارَةٍ ، وَمَسْجِدٍ بَيْنَ قَبْرَيْنِ ، وَأَسَدَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَلُوذَانِ بِهِ ، وَيَتَمَسَّحَانِ بِأَبْوَابِهِ ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا سَبَقَ الآخَرَ إِلَى الْمَاءِ ، فَتَبِعَهُ الآخَرُ يَطْلُبُ الْمَاءَ ، فَضَرَبَهُ بِالْقَضِيبِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، وَقَالَ : ارْجِعْ ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ، حَتَّى يَشْرَبَ الَّذِي وَرَدَ قَبْلَكَ عَلَى الْمَاءِ ، قَالَ : فَرَجَعَ ، ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا هَذَانِ الْقَبْرَانِ ؟ فَقَالَ : هَذَانِ قَبْرَا أَخَوَيْنِ لِي ، كَانَا يَعْبُدَانِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْمَكَانِ ، لا يُشْرِكَانِ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئًا ، فَأَدْرَكَهُمَا الْمَوْتُ ، فَقَبَرْتُهُمَا ، وَهَأَنَا بَيْنَ قَبْرَيْهِمَا حَقٌّ أَلْحَقُ بِهِمَا ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِمَا فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ ، وَانْكَبَّ عَلَيْهِمَا ، وَجَعَلَ يَقُولُ : أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي بِسَمْعَانَ مُفْرَدٌ وَمَا لِي فِيهَا مِنْ خَلِيلٍ سِوَاكُمَا خَلِيلَيَّ هُبَّا طَالَ مَا قَدْ رَقَدْتُمَا أَجِدُكُمَا لا تَقْضِيَانِ كَرَاكُمَا أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي بِشَمْعَانَ مُفْرَدٌ وَمَا لِي فِيهَا مِنْ خَلِيلٍ سِوَاكُمَا مُقِيمٌ عَلَى قَبْرَيْكُمَا لَسْتُ بَارِحًا طَوَالَ اللَّيَالِي أَوْ يُجِيبُ صَدَاكُمَا أَبْكِيكُمَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا الَّذِي يُرَدُّ عَلَى ذِي عَوْلَةٍ إِنْ بَكَاكُمَا كَأَنَّكُمَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَائِبٍ بِرُوحِي فِي قَبْرَيْكُمَا قَدْ أَتَاكُمَا أَمِنْ طُولِ نَوْمٍ لا تُجِيبَانِ دَاعِيًا كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي الْعَقَارَ سَقَاكُمَا فَلَوْ جُعِلَتْ نَفْسٌ لِنَفْسٍ وِقَايَةً لَجُدْتُ بِنَفْسِي أَنْ تَكُونَ فِدَاكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَحِمَ اللَّهُ قُسًّا ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أُمَّةً وَحْدَهُ " . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَمْ أَكْتُبْهُ بِطُولِهِ هَكَذَا إِلا مِنْ حَدِيثِ الْفُسْطَاسِيِّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا . .