احمد بن محمد العطار


تفسير

رقم الحديث : 3859

أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْكَرِيمِ بْن حَمْزَةَ ، نا عَبْد الْعَزِيزِ بْن أَحْمَدَ ، أنا تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّد ، أنا أَبُو بكر يَحْيَى بْن عَبْدِ اللَّهِ بن الحارث العبدري ، نا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مَسْلَمَةَ العذري ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْد اللَّهِ الدِّمَشْقِيّ ، نا زكريا بْن إِبْرَاهِيمَ الخصاف ، عَنِ السليط بن سبيع ، وكان من بني عامر ، قَالَ : كنت تاجرا ، وكان أكثر تجارتي فِي البحر ، فركبت من ذَلِكَ إِلَى بلاد الصين ، فأتيت عَلَى راهب من رهبان الصين كَانَ عَلَى دين عِيسَى بن مريم عَلَيْهِ السلام ، وكان مؤمنا ، فناديته : يا راهب ، فأشرف من صومعته ، فَقَالَ : ما تشاء ؟ قلت : من تعبد ؟ قَالَ : الذي هُوَ خلقني وخلقك ، قلت : يا راهب ، فعظيم هُوَ ؟ قَالَ : نعم يا فتى عظيم فِي المنزلة ، قد حوت عظمته كل شيء ، لم يحلل بنفسه فِي الأشياء فيقال منها ، ولم يعتزل فيقال : ناء عنها ، قلت : يا راهب ، فأين اللَّه من محل قلوب العارفين ؟ قَالَ : يا فتى إن محل قلوب العارفين لا يغرب عَنِ اللَّه بعد إذ علم أنها إِلَيْهِ مشتاقة ، قلت : يا راهب ، فما الذي قطع بالخلق عَنِ اللَّه ؟ قَالَ : حب الدنيا ، لأنها أصل المعاصي ، ومنها تفجرت ، ولم تصل بِهِمْ إِلَى إبطال تركها قلة معرفة ، ولتركها ثلاث منازل : فأولها : منزلة ترك الحرام من الْقَوْلِ والفعل والعزائم والرضا بما جل من ذَلِكَ أو دق ، حتى تطيع اللَّه فيمن عصاه فيك ، وتعتزل الصديق والعدو ، فعند ذَلِكَ تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك ، وتدع الهوى بنور الإيمان عليك . والمنزلة الثانية : ترك الفضول من الْقَوْلِ والمقال والمثال ، حتى ترحم من ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، فعند ذَلِكَ تقاد بحلاوة ، يعني طاعة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، وبعزم الإرادة ، وترتبط بحبل الطاعة . والمنزلة الثالثة : ترك العلو والرياسة واختيار التواضع والذلة ، حتى تصير مثل مملوك لسيده ، وبامراج النظر تطلعت للنفس إِلَى فضول الشهوات فأظلم القلب ، ولم ير جميلا فيرغب فِيهِ ولا قبيحا فيأنف منه ، وبضبط النظر ذلت النفس عَنْ فضول الشهوات , فانفتح القلب فأبصر جميلا يرغب فِيهِ ، وانكشف العقل فأبصر . قلت : يا راهب فأيما العقل ؟ قَالَ : أوله المعرفة ، وفرعه العلم ، وثمرته السنة ، قلت : يا راهب ، متى يجد العبد حلاوة الإيمان والأنس بِاللَّهِ ؟ قَالَ : إِذَا صفا الود ، وجادت المعاملة ، قلت : يا راهب متى يصفو الود ؟ قَالَ : إِذَا اجتمعت الهموم ، فصارت فِي الطاعة ، قلت : يا راهب ، متى تخلص المعاملة ؟ قَالَ : إِذَا اجتمعت الهموم ، فصارت واحدة . قلت : يا راهب ، عظني وأوجز ، قَالَ : لا يراك اللَّه حيث يكره ، قلت : زدني من الشرح لأفهم ، قَالَ : كل حلالا ، وارقد حيث شئت ، قلت : يا راهب لقد تحليت بالوحدة ، قَالَ : يا فتى ، لو ذقت طعم الوحدة لاستوحشت لها من نفسك الوحدة ، رأس العبادة ، ومؤنسها الفكرة ، قلت : يا راهب ، فما أشد ما يصيبك فِي صومعتك من هَذِهِ الوحدة ؟ قَالَ : يا فتى ليس فِي الوحدة شدة الوحدة أنس المريدين ، قلت : يا راهب ، ما أشد ذَلِكَ عليك ؟ قَالَ : تواتر الرياح العواصف فِي الليل الشاتي ، قلت : تخاف أن تسقط فتموت ؟ فتبسم تبسما لم يفتح فاه ، ولكن أشرق وجهه ، وقال : يا فتى ، هل العيش إلا فِي السقوط ، وما أشبهه من أسباب الموت ؟ قلت : فلم يشتد ذَلِكَ عليك إن كَانَ كذلك ؟ قَالَ : يا فتى ، أما وَاللَّه إِذَا اشتدت عَلِيّ الريح وعصفت ، ذكرت عند ذَلِكَ عصوف الخلق فِي الموقف ، مقبلين ومدبرين ، لا يدرون ما يراد بِهِمْ ، حتى يحكم اللَّه بين عباده ، وَهُوَ خير الحاكمين ، وصاح صيحة أفزعتني من شدتها : يا طول موقفاه ! ، قلت : يا راهب ، بما تقطع الطريق إِلَى الآخرة ؟ قَالَ : بالسهر الدائم ، والظمأ فِي الهواجر ، قلت : يا راهب ، فأين طريق الراحة ؟ قَالَ : فِي خلاف الهوى ، قلت : يا راهب متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قَالَ : عند أول قدم يضعها فِي الجنة ، قلت : يا راهب لقد تخليت عَنِ الدنيا ، وتعلقت فِي هَذِهِ الصومعة ؟ قَالَ : يا فتى ، إنه من مشى عَلَى الأرض عثر ، ففررت فرار الأكياس من فخ الدنيا ، وخفت اللصوص عَلَى رحلي ، فتعلقت فِي هَذِهِ الصومعة ، وتحصنت بمن فِي السماء من فتنة من فِي الأرض ، لأنهم سراقون للعقول ، وتخوفت أن يسرقوا عقلي ، وذلك أن القلب إِذَا صافى صديقه ضاقت بِهِ الأرض ، وَإِذَا أنا تفكرت فِي الدنيا تفكرت فِي الآخرة ، وقرب الأجل ، فأحببت الرجل إِلَى رب لم يزل ، قلت : يا راهب فمن أين تأكل ؟ قَالَ : من زرع لم أتول بذاره من بيدر اللطيف الخبير ، ثُمَّ قَالَ : يا فتى ، إن الذي خلق الرحا هُوَ يأتيها بالطحين ، ثُمَّ أشار بيده إِلَى رحا ضرسه ، قلت : يا راهب ، كيف حالك فِي هَذَا الدنيا ؟ قَالَ : كيف حال من يريد سفرا بعيدا بلا أهبة ولا زاد ، ويسكن قبرا بلا مؤنس ، ويقف بين يدي حكم عدل ؟ . ثُمَّ أرخى عينيه فبكى ، قلت : يا راهب ، ما يبكيك ؟ قَالَ : يا فتى ، حقا أقول لك ، ذكرت يوما مضى من أجلي لم يحسن فِيهِ عملي ، أبكاني قلة الزاد ، وبعد المعاد ، وعقبة هبوط إِلَى جنة ، أو إِلَى نار ، قلت : يا راهب ، فلو تحولت من هَذِهِ الصومعة وخالطتنا ، فإن عندنا رهبانا يخالطونا ويعاشرونا ، قَالَ : هيهات يا فتى ، كم من متعبد لله بلسانه معاند له بقلبه ، يقاد إِلَى عذاب السعير ، ذاك زاهد فِي الظاهر ، راغب فِي الباطن ، حسن الْقَوْلِ ، خبيث المعاملة ، مشارك لأبناء الدنيا ، لا ......أو يفر من جوار إبليس ، قلت : استغفر اللَّه ، قَالَ : يا فتى ، سرعة اللسان بالاستغفار من غير بلوغ توبة الكذابين ، ولو علم اللسان مما يستغفر اللَّه لجف فِي الحنك ، يا فتى ، إن الدنيا منذ ساكنها الموت لم تقر بها عين ، كلما تزوجت الدنيا بزوج طلقها الموت ، فالدنيا من الموت طالقة ، لم تقض عدتها بعد ، فمثلها مثل الحية ، لين مسها والسم فِي جوفها ، يحذرها رجال ذوو عقول ، ويهوي إِلَيْهَا الصبيان لقلة عقولهم ، وتضرعهم بمرارة عيشهم ، وكدرة صفوها ، يا فتى ، كم من طالب الدنيا لا ينال حاجته ، ولم يبلغ أمله ولم يدركها ، ومدرك لها إدراك فِيهِ مرارة عيشها ، وكدر صفوها . واعلم يا فتى ، أن شدة الحساب ومعاينه الأهوال مع الحمل الثقيل سيثقل اليوم عَلَى المسرفين بما عملوا ومرحوا فِي الأرض بغير ما أمروا . يا فتى ، اجتناب المحارم رأس العبادة ، وسيعلم المتقون بما صبروا عَلَى سجع الدنيا ، والطريق ، والظمأ فِي الهواجر ، والقيام عَلَى الأقدام فِي ظلم الدجى ، وإجاعة الأكباد ، وعري الأجساد ، وذلك أن اللَّه عدل فِي قضائه ، سابق فِي مقاله ، أن لا يضيع أجر المحسنين ، قلت : يا راهب ، إني لأريد لنفسي شيئا من المطعم والمشرب ، فلا يكفيني حتى تتوق نفسي إِلَى أكثر من ذَلِكَ ، قَالَ : يا فتى إن نواصي العباد فِي يد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وقبضته ، فلا يجوزون من ذَلِكَ إِلَى غيره ، قد قسم أرزاقهم ، وفرغ من آجالهم ، تدبير اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي مطعمه ومشربه أحرى ألا يجريه تدبير لنفسه ، قلت : أوه ضربت فأوجعت ، وشددت فأوثقت ، قَالَ : بل أطعمت وأشبعت ، ووعظت فنفعت ، قلت : يا راهب ، بما يستعان عَلَى الزهد فِي الدنيا ؟ قَالَ : بتقصير الأمل ، وذكر الموت ، والمداومة عَلَى العمل ، قلت : يا راهب ، فمتى ترحل الدنيا عَنِ القلب ، وتسكن الحكمة الصدر ؟ فصاح صيحة خر مغشيا عَلَيْهِ ، ومكث ساعة كذلك ، ثُمَّ أفاق من غشيته ، فَقَالَ لي : كيف قلت ؟ قَالَ : فأعدت عَلَيْهِ الْقَوْلَ ، فَقَالَ : لا وَاللَّه ، لا ترحل الدنيا عَنِ القلب وأنت منكب عَلَى القراريط والفلوس ، تتلذذ بالنظر إِلَى كثرتها ، وتستعين بكسب الحرام عَلَى جمعها ، وأنت تحب النظر إِلَى هؤلاء ، وأشار بيده إِلَى الخلائق ، ثُمَّ قَالَ : لا ترد موارد السباع الضارية المنقطعة عَنِ الخلائق فِي الكهوف ، وأطراف الجبال الشواهق الصم الصلاب ، يَقُول المسيح عِيسَى بن مريم : لا ينال العبد منال الصديقين ، ودرجة المقربين ، ويعرف فِي الملكوت الأعلى ، حتى يترك امرأته أرملة عَنْ غير طلاق ، وصبيانه يتامى من غير موت ، ويأوي إِلَى مرابض الكلاب ، فعند ذَلِكَ يعرف فِي الملكوت الأعلى ، وينال الدرجة الخامسة من درجات العارفين ، وأما قولك : متى تسكن الحكمة الصدر ؟ حتى يراك اللَّه وقد أعتقت رقبتك من أن تكون مملوكا لامرأتك ، وأجيرا لولدك ، قلت : يا راهب ، فما أول قيادة القلب إِلَى الزهد فِي الدنيا ، والرضا بالقسم ؟ قَالَ : بإماتة الحرص ، وبذبح حنجرة المطعم ، فإن كثرة المطعم تميت القلب ، كما يموت البدن ، قلت : يا راهب ، فأكون معك ، وأقيم عليك ؟ قَالَ : وما أصنع بك ؟ وأي أنس لي فيك ؟ ومعي عاطي الأرزاق ، وقابض الأرواح ؟ يسوق إلي رزقي فِي وقته ، ولم يكلفني حمله ، ولا يقدر عَلَى ذَلِكَ أحد غيره . ثُمَّ قَالَ لي : يا فتى ، طوبى لمن ترك شهوة حاضره لموعد لم يره ، كما لا يجوز فيكم الشريف كذا لا يجوز كلامكم إلا بنور الإخلاص ، كم من صلاة قد زخرفتموها بآية من كتاب اللَّه كما تزخرف الفضة السوداء بالبيضاء للناظرين إِلَيْهَا حتى ينظروا بنور الإخلاص لا فساد لها ، عند إصلاح الضمائر تكفير الكبائر ، ثُمَّ قَالَ : يا فتى ، إن العبد إِذَا أضمر عَلَى ترك الآثام أتاه القنوع ، ثُمَّ قَالَ : يا فتى ربما استنظرني الفرج من مجلسي إِلَى الصلاة ، ولربما رأيت القلب يضحك ضحكا ، وأهل الليل فِي ليلهم ألذ من أهل اللهو فِي لهوهم ، يا فتى ، همة العاقل النجاة والهرب ، وهمة الأحمق اللهو والطرب ، ثُمَّ قَالَ : يا فتى ، إِذَا أضمر العبد عَلَى الزهد فِي الدنيا تعلق قلبه فِي الملكوت الأعلى ، نظر إِلَى الدنيا بعين القلة فنظره إِلَى ما فِيهَا عبرة ، وسكوته عَنِ الْقَوْلِ مغنم ، وذلك عندما ينال الدرجة السادسة ، قلت : يا راهب ، فما أول الدرجات التي يقطع فِيهَا المريدون ، وَهِيَ باب الإرادة ؟ قَالَ : رد المظالم إِلَى أهلها ، وخفة الظهر من التبعات ، فإن العبد لا تقضي له حاجة ، وعليه مظلمة لا تبعة ، قلت : يا راهب ، ما أفضل الدرجات ؟ قَالَ : الصبر عَلَى البلاء ، والشكر عَلَى الرخاء ، وليس فوق الرضا درجة ، وَهِيَ درجة المقربين . ثُمَّ عاد بالكلام عَلَى نفسه ، فأقبل يعاتبها ، وَهُوَ يَقُول : ويحك يا نفس ! ما إن أراك فِي تقلبك ومثواك أثبت إلا الفرار من الحق والموت يقفوك ، فأين تفرين ممن أنت له عاصية ، وَهُوَ إليك محسن ؟ ثُمَّ قَالَ : إلهي وسيدي ، أنت الذي سترت عيوبي ، وأظهرت محاسني حتى كأني لم أزل أعمل بطاعتك ، إلهي ، أنا الذي أرضيت عبادك بسخطك ، فلم تكلني إِلَيْهِمْ ، وأمددتني بقوتك ، إلهي وسيدي ، إليك انقطع المريدون فِي ظلم الدجى ، وباكروا الدلج فِي ظلم الأسحار ، يرجون رحمتك وسعة مغفرتك ، اللهم أسكني فِي درجة المقربين ، واحشرني فِي زمرة العارفين ، فإنك أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين يا مَالِك يوم الدين .

الرواه :

الأسم الرتبة

Whoops, looks like something went wrong.